حل مشكلة الإسكان يتطلب تنسيقا كاملا بين الأجهزة الحكومية المعنية

بحسب التوقعات.. عدد السكان يصل إلى 30 مليون نسمة في عام 2017م

حل مشكلة الإسكان يتطلب تنسيقا كاملا بين الأجهزة الحكومية المعنية

قراءة : غسان بادكوك

بالأمس، صدرت ميزانية العام المالي 2013 م، والتي حملت في طياتها الكثير من بشائر الخير للمواطنين في كافة أرجاء المملكة، واستبشار المواطنين بأرقام الميزانية الجديدة له أسبابه الموضوعية؛ لأن من شأن القدرة المالية الفائقة التي تميز ميزانية المملكة للعام الجديد أن تسهم بشكل فاعل في إحراز تقدم ملموس نحو تحقيق الكثير من مطالب المواطنين، ولا سيما ما يرتبط منها بالتحديات الوطنية الرئيسية التي ستقوم مختلف أجهزة الحكومة ببذل المزيد من الجهود لمواجهتها باستراتيجيات فاعلة وموارد مالية كبيرة، ومن أبرزها الإسكان.
والمؤكد أن الميزانية الجديدة ستتيح لوزارات الدولة المختلفة التسريع بإنجاز الكثير من المشروعات؛ ليس فقط تلك التي بدئ العمل بها خلال فترات سابقة، بل والتوسع أيضا في اعتماد وإنشاء مشاريع جديدة تغطي مختلف قطاعات التنمية، وفي مقدمتها خلق فرص عمل للمواطنين، وتنويع مصادر الدخل الحكومي، وتطوير مخرجات التعليم، وخفض الاستهلاك المحلي المتزايد من الطاقة، والسيطرة على التضخم للحد من ارتفاعات الأسعار، ومواكبة نمو الطلب على المياه والكهرباء والخدمات الصحية، والحد من الاستقدام.
السكن تحد فريد
ودونا عن باقي التحديات الوطنية، يتميز التحدي الإسكاني في المملكة بأنه فريد من نوعه ولا تتشابه سماته الرئيسية مع التحديات الوطنية الأخرى، ويعود ذلك ــ في تقديري ــ إلى عدة أسباب تتلخص في أن مشكلة توفير مساكن للمواطنين تتقاطع مع احتياجات نحو 65 % من سكان المملكة، إضافة إلى أن التأخير الملاحظ في التعامل مع هذه الإشكالية لا يرتبط بشح التمويل، حيث تدخل خادم الحرمين الشريفين ــ يحفظه الله ــ شخصيا لدعم هذا القطاع، وتم تخصيص اعتمادات ضخمة لتحقيق الهدف المنشود بقيمة 250 مليار ريال لبناء 500 ألف وحدة سكنية في جميع مناطق المملكة.
محدودية النتائج المحققة
وبالإضافة لما تقدم، فإن كل تأخير يحدث اليوم في توفير المساكن سوف يضاعف العبء اللازم لحل المشكلة خلال السنوات القادمة بالنظر للمعدل المرتفع للزيادة السكانية في المملكة. من جانب آخر، فقد قامت وزارة الشؤون البلدية والقروية بتوفير ملايين الأمتار من المساحات الشاسعة والكافية لتمكين وزارة الإسكان من القيام بدورها في أسرع وقت ممكن والبدء بتوفير المساكن المطلوبة، إلا أن النتيجة التي قد لا يختلف عليها الكثيرون هي محدودية النتائج المحققة حتى الآن، وعدم شعور المواطنين بإنجازات قوية على أرض الواقع تتناسب مع الموارد والإمكانات المتاحة.
مفاهيم أكثر كفاءة
وعلى ضوء الحقائق السابقة، فإن الكرة الآن في ملعب وزارة الإسكان التي ينتظر منها سرعة القيام بتحرك ممنهج يبتعد عن الروتين والتثاؤب اللذين صبغا أداءها خلال السنوات التي انقضت منذ تأسيسها خلفا لهيئة الإسكان. ومما لا شك فيه أن مشكلة بهذا الحجم والأهمية تتطلب تحركا غير تقليدي، وصولا لترجمة توجيه الملك ــ يحفظه الله ــ إلى واقع ملموس بتوفير المساكن للمواطنين، بدء بذوي الدخول المنخفضة والمتوسطه. وعلى ضوء هذه الحقائق، فإن هناك حاجة ملِحة لأن تتبنى وزارة الإسكان مفاهيم أكثر كفاءة وتنظيما مما تم اعتماده حتى الآن؛ من أجل تحفيز نمو قطاع الإسكان، ليس فقط باعتباره مكونا أساسيا لأمننا الاجتماعي، بل لأنه أيضا عنصر مهم لتعزيز الولاء تجاه الوطن.
حقائق وأرقام سكانية:
وتأبى قضية توفير مساكن للمواطنين إلا أن تشغل مكانة متقدمة على قائمة التحديات الوطنية، باعتبار المملكة دولة قارية المساحة ذات نمو سكاني متسارع بنسبه تقدر بنحو 2.5 % سنويا، ويتوقع أن يصل عدد سكانها إلى 30 مليون نسمة بحلول عام 2017، ولا يمتلك نحو 65 % من مواطنيها مساكنهم، ويقل معدل دخل 70 % من الموظفين عن 8 آلاف ريال شهريا، ويشكل المواطنون دون سن 40 عاما نحو 80 % من السكان السعوديين، وقد يصل حجم العجز في المنازل فيها إلى مليون مسكن خلال العام القادم 2013، وينتظر نحو مليونين و400 ألف مواطن دورهم للحصول على قروض صندوق التنمية العقاري، وترتفع كلفة الأراضي السكنية إلى ما بين 50 إلى 60 % من قيمة البناء في العديد من المدن الرئيسية ــ مقارنة بنحو 15 إلى 25 % في الظروف الطبيعية ــ الأمر الذي يرفع باستمرار من أسعار المنازل، وبالتالي يزيد من نسبة المواطنين الذين يسكنون في بيوت مستأجرة.
تصد مبكر للمشكلة
وكانت الدولة قد أدركت قبل نحو أربعين عاما ضرورة التصدي المبكر لهذه القضية، فأنشأت صندوقا حكوميا لدعم التنمية العقارية من خلال منح مواطنيها قروضا ميسرة بدون فوائد يتم سدادها على مدى طويل، واستفاد منها نحو 800 ألف مواطن في إقامة مساكنهم قبل أن يتعثر الصندوق في القيام بدوره كما ينبغي؛ لأسباب متعددة من أبرزها انخفاض موارده وتدهور قدراته على التمويل نتيجة لعدم كفاءة التحصيل، وارتفاع نسبة التخلف عن السداد، وضخامة عدد المتقدمين، وبطء مبادراته لتطوير آليات أكثر كفاءة لتمويل بناء وحدات سكنية عن طريق إقامة شراكات مع القطاع المصرفي بضمان تقدمه وزارة المالية، إلا أن الصندوق استدرك ذلك مؤخرا ببرامج تمويلية جيدة هي «الضامن» و«الإضافي» و«المعجل»، كما شملت أسباب تعثر الصندوق طول فترة انتظار القرض نتيجة لتراكم الطلبات المتأخرة، والتي بلغت نحو 600 ألف طلب من الطلبات القديمة بقيمة تمويل تجاوزت حوالي 180 مليار ريال، هذا فضلا عن نحو مليون و800 ألف طلب تم تقديمها عبر الإنترنت.
قرارات استراتيجية سامية
وهنا تدخلت الدولة ــ مرة أخرى ــ لدعم هذا القطاع الحيوي بتحويل هيئة الإسكان إلى وزارة، وصدر أمر خادم الحرمين الشريفين ــ يحفظه الله ــ بزيادة رأسمال الصندوق بواقع 40 مليار ريال، كما تم دعم القطاع لاحقا بحزمة قرارات ملكية سامية ذات بعد استراتيجي كان من بينها تخصيص اعتماد مالي بقيمة 250 مليار ريال لبناء 500 ألف وحدة سكنية في جميع مناطق المملكة، كما تم زيادة سقف مبلغ التمويل السكني الذي يقدمه صندوق التنمية العقاري إلى 500 ألف ريال، وتم إلغاء شرط تملك الأرض، وأتبع ذلك صدور منظومة الرهن والتمويل العقاري التي كان تأخيرها هو أحد المعوقات التي أدت إلى تفاقم المشكلة.

حلول إسكان عملية
ويدرك المواطنون، ولا سيما محدودو الدخل منهم بأن وزارة الإسكان هي الجهاز الحكومي المسؤول عن تطوير برامج وآليات ضمن إطار استراتيجي أشمل للتعامل مع هذا التحدي الوطني المزمن قبل أن يستعصي على الحل، كما يتوقعون من الوزارة وضع حلول إسكان عمليه وقصيرة المدى بحيث تبدأ نتائجها في الظهور اعتبارا من العام المقبل وأخرى ذات أجل متوسط إلى بعيد، أي من 3 إلى 5 سنوات للتعامل مع مشكلة بهذا الحجم والأهمية، وصولا لترجمة توجيه الملك ــ يحفظه الله ــ إلى واقع ملموس بتوفير المساكن للمواطنين، بدءا بذوي الدخول المنخفضة والمتوسطة.
تحديات وزارة الإسكان
واستباقا لصدور الاستراتيجية الوطنية للإسكان التي تم الإعلان عنها مرارا في الآونة الأخيرة، إلا أنها لم تر النور حتى الآن، وحتى تتمكن وزارة الإسكان من القيام بدورها المأمول، فإن هناك حزمة من التحديات التي ينبغي على الوزارة وضعها في الاعتبار، باعتبارها أدوات لتنفيذ الاستراتيجية المنتظرة، وتشمل ــ في تقديري ــ ما يلي:
• إعادة هيكلة صندوق التنمية العقاري بتحويله إلى بنك إسكان لتحريره من قيود البيروقراطية وزيادة قدرته على التفاعل بشكل أكثر إيجابية مع إشكالية نقص المساكن.
• فرض وجباية الزكاة على الأراضي البيضاء داخل النطاقات العمرانية للمدن لجعلها أكثر كلفة لمحتكريها من مستثمري ومضاربي الأراضي.
• دعم رأس مال الصندوق أو «بنك الإسكان» بمصدر مالي مستقل ومستمر مثل أموال زكاة الأراضي البيضاء التي يتم تنميتها من خلال صندوق استثماري يتم تأسيسه لهذا الغرض ويتم توجيه عوائده لدعم مشاريع الإسكان.
• تخفيض قوائم مقترضي الصندوق المتعثرين في السداد باستقطاع الأقساط من أجورهم عبر النظام البنكي أسوة بالقروض المصرفية الشخصية.
• السعي باتجاه إعادة هيكلة عمولات تمويل القروض البنكية العقارية من تراكمية إلى متناقصة لجعل التمويل أقل كلفة للمواطنين.
• اعتماد سياسات تحفيزية لدعم شركات المقاولات الوطنية والمطورين العقاريين والممولين الذين من المتوقع أن يلعبوا أدوارا محورية في توفير المساكن المطلوبة.
• تطوير نظام منح الأراضي على نحو يمنع تداولها والمتاجرة فيها.
• توفير مقومات البنية التحتية من خدمات المياه والكهرباء والصرف والاتصالات والسفلتة والإنارة في المخططات الجديدة قبل اعتمادها.
• وضع معايير تتسم بالعدالة والموضوعية لحصول المواطنين على مساكن من مشاريع الوزارة، بدلا عن معيار أسبقية التقديم.
• ضبط سوق مواد البناء بأنظمة صارمة تمنع الاحتكار وافتعال الأزمات.
• اعتماد كود البناء الوطني.
• تغيير الأنظمة البلدية الخاصة بالبناء للسماح بتعدد الأدوار في المخططات العمرانية الجديدة والضواحي حول المدن، بما يزيد من القيمة المضافة للأراضي والمباني، وجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين والمطورين.
• توفير شبكات نقل عام حديثة وسريعة ومتنوعة لخدمة المجتمعات الجديدة لتشجيع المواطنين على السكن في الضواحي.
• تطوير أنظمة تملك الوحدات السكنية المشتركة في عقار واحد «الشقق» على نحو يجعلها أكثر موثوقيه للملاك المحتملين.
• ابتكار بدائل متفاوتة المساحة والتصميمات لمساكن «اقتصاديه» تلبي حاجات الأسر الصغيرة والناشئة من المنازل التي تتناسب مع الشرائح الأقل دخلا من المواطنين.
• التأسيس لثقافة العمل اليدوي والتوسع في تعليم شباب الوطن المهن المرتبطة بصناعة الإنشاءات من خلال إقامة معاهد وطنيه لحرف البناء في مختلف مناطق المملكة ضمن خطة جادة لكسر هيمنة الوافدين على قطاع المقاولات.
التنسيق مع الأجهزة الحكومية
والأمر المؤكد هو أن وزارة الإسكان لا بد أن تضع نصب عينيها التحديات سالفة الذكر إذا ما أرادت حل أزمة السكن في المملكة والنجاح في امتحان الاستراتيجية الوطنية المرتقبة للإسكان، مع إدراكنا بأن العديد من تلك التحديات تندرج تحت مسؤوليات أجهزة حكومية أخرى، من أبرزها وزارات: المالية، العدل، الشؤون البلدية والقروية، التربية والتعليم، التجارة والصناعة، النقل، والمياه والكهرباء، إضافة إلى مؤسسة النقد.
وفي سبيل إصدار استراتيجية وطنية للإسكان تتسم بالكفاءة والقدرة على تيسير امتلاك المواطنين للمنازل، فإن هناك مهمة وطنية صعبة بانتظار وزير الإسكان، حيث ينتظر الكثيرون من وزارته أن تغير نمط حياتهم بنقلهم من خانة المستأجرين إلى الملاك في رحلة طويلة، تبدأ بالتنسيق مع كافة الوزارات ذات الصلة مع الاستعانة بمجلس الشورى الذي يزخر بالكفاءات الوطنية في كافة المجالات لتذليل تلك المعوقات والاستفادة من تجارب المجلس العديدة الناجحة في اقتراح الأنظمة اللازمة لدعم الاستراتيجية المنتظرة، وصولا إلى أن تقوم وزارة الإسكان بدور القاطرة التي تقود باقي العربات الخاصة بتسهيل امتلاك نحو ثلثي سكان المملكة لمنازلهم، وعندها فقط يمكن أن تنجح الوزارة في تحقيق هدفها الرئيس، وهو تنفيذ رؤية مليكنا المفدى نحو زيادة فرص المواطنين من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط في امتلاك مساكنهم في دولة لا تنقصها الموارد بقدر ما تحتاج لعزائم المخلصين من رجالها، واعتبار ذلك الهدف هو أحد أبرز حقوق المواطنة في المملكة.

مجلس أعلى للإسكان
وفي الختام، فإن هناك رجاء أتشرف برفعه إلى جهات الاختصاص، ويعنى بالنظر في إمكانية إنشاء مجلس أعلى للإسكان يتولى رسم التوجهات الرئيسية للإسكان في المملكة، وتحديد الأهداف وفق جدول زمني، وإقرار الاستراتيجية الوطنية في هذا المجال ومتابعة التنفيذ، والتدخل لتذليل التحديات.
تويتر: @gbadkook