صنع الله إبراهيم .. القهر بداية الطريق إلى القصة القصيرة

محمد بن عبدالرزاق القشعمي

مذ أن قرأت (تلك الرائحة) وما كتب عنها قبل خمسة وعشرين عاما، وأنا مغرم بما يكتبه صنع الله إبراهيم، وبالذات رواياته الجميلة (نجمة أغسطس، اللجنة، بيروت.. بيروت، ذات، شرف، وردة، أمريكانلي)، وأخيرا رواية (التلصص) والتي قرأتها قبل أيام.. وتذكرت له كتابا جديدا وجدته قبل أشهر في مكتبة الشروق في القاهرة، فعزمت على قراءته رغم أن عنوانه لا يوحي بأهميته لمن لا يعرف المكان والمناسبة (يوميات الواحات)، ومع بداية قراءته وجدت الأستاذ محمد العلي يكتب مقاله المعتاد بجريدة (اليوم) ليوم السبت 1/6/1428هـ الموافق 16/6/2007م تحت عنوان (كفاية)، وإذا هو يتحدث فيما يتحدث عنه عن الكتاب (يوميات الواحات) والكاتب (صنع الله إبراهيم)، والكتاب لمن لم يطلع عليه هو عبارة عن نتف وحلقات من سيرته الذاتية، وبالذات ما يتعلق بمحنة السجن والتعذيب..
وقد استهوتني قراءته الدؤوبة ومتابعته الفكرية رغم ما يعانيه من قسوة وعزل وحرمان.. لقد وجدت بين ثنايا صفحات هذا الكتاب القيم بداياته مع الكتابة، وبالذات المحاولات القصصية والروائية، وما يكتبه لشقيقته في الورق الشفاف (ورق السجائر) ويهربه لها من داخل السجن مع أحد الزوار أو مع من يفرج عنه.. لقد قضيت وقتا جميلا مع الكتاب.. فنجده يفتتحه بقوله: «السجن هو جامعتي.. ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستيطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة، وفيه أيضا قررت أن أكون كاتبا، أما أبي فهو المدرسة..»، وإذا هو يتطرق إلى بدايته مع القراءة في المدرسة وتشجيع والده له، فرغم تواضع أدائه في المدرسة وملله منها، إلا أنه وهو في الثانية عشرة من عمره نجده يأخذ مجموعة من الورق المسطر وينقل عليه خفية رواية بوليسية اسمها (الرجل المقنع)، فغير أسماء الشخصيات ووضع اسمه مكان اسم المؤلف الحقيقي، وحاول في السنة التالية أن يكتب رواية حقيقية مسرحها سوق المجوهرات بلندن.
وفي عام 1952م، قامت الثورة والتحق في السنة نفسها بجامعة القاهرة لدراسة القانون، ولكن علاقته بالجامعة لم تختلف عن علاقته بالمدرسة. حرر صحيفة حائطية بمفرده، وكان يسكن بجوار منزلهم زميل له بالكلية مغرم برسوم الكاريكاتير، فشاركه في إصدار مجلة مطبوعة باسم (أنوار الجامعة) ودعمه والده بعشرين جنيها فصدر من تلك المجلة ثلاثة أعداد، أصبح بعد ذلك يكتب القصص على المنوال الواقعي الرومانسي، وبطريقة عبدالرحمن الخميسي وعبدالرحمن الشرقاوي نفسها، فعرض بعضها على يوسف إدريس، فوعده بنشرها في (روز اليوسف)، ولم يلبث أن اعتقل فلم يتحقق الوعد.
هجر الجامعة وانتقل ليعيش مع أخته بعد وفاة والده، فانغمس بالعمل السياسي وتخلص من القصص التي كتبها معتبرا أنها من عبث المراهقة.
ولكنه بعد أن تعرف على محمود أمين العالم وشهدي عطية عاد ليكتب القصة القصيرة، فبدأ بقصة (لقاء غرامي بين ثوريين).
قبض عليه مع آخرين بعد إحدى المظاهرات ليزج به في سجن القناطر الخيرية، خرج ليعمل في الصحافة ويعرض لبعض الكتب، ومنها كتاب عن ثورة الجزائر لعلي الشلقاني.
يقول إنه تعلم من شهدي عطية أخلاقيات العمل الجاد المنضبط والترجمة من الإنجليزية للعربية فكان يصفه بالوالد والأخ الأكبر.
اعتقل في يناير 1959م، فبقي ثلاثة أشهر محروما من الصحف والراديو والكتب والأوراق والقلم، وهي كلها حقوق عادية كان يتمتع بها المعتقل السياسي أيام الاستعمار الإنجليزي.
تضاعف عدد المساجين فنقلوا إلى السجن المركزي، وكان به مكتبة ضخمة تكونت أغلب محتوياتها على مدى الزمن من مساهمات النزلاء أنفسهم الذين ضموا نسبة محترمة من المتعلمين والأجانب. وأمكن لهم استخدام هذه المكتبة بواسطة مندوب يقترض بضعة كتب توزع على الزنازين ويتم تبادلها بينهم ثم تستبدل بمجموعة غيرها.