القبائل السعودية و«مزاينها»

شتيوي الغيثي

مفهوم القبيلة بالتأكيد هو مفهوم اجتماعي أنتجته ظروف الحياة القديمة، لتصبح هي الكيان الذي ينتمي إليه الفرد، ولها قيمها وعاداتها التي هي محل اهتمام أبنائها، ولربما بالغوا بعض الشيء بهذا الاهتمام. فالقبيلة في نظري هي هوية اجتماعية للإنسان الفرد في حالة ذوبان كلي في الجماعة، والجماعة الأقرب دائما هي القبيلة بوصفها الكيان الذي عاش الفرد تمثلاتها القيمية منذ تكوينه الاجتماعي والسيكيولوجي، حتى أصبحت أحد أهم الروافد الثقافية في تشكيل شخصية الإنسان السعودي.
والعلاقة بين الفرد وقبيلته علاقة تكاد تكون نوعا من الاستلابية الثقافية لهوية الفرد الحقيقية (الهوية الفردية)، بمعنى أن هوية الفرد المستقلة تغيب تماما من أجل صالح الجماعة (الجماعة هنا تتمثل بالقبيلة، وعند الحركات السياسية بالحزب، والإسلاميين بالأمة .. إلخ) وهذا الاستلاب يعمل على تشكيل الهوية الأم، رغم تعدد الهويات في شخصية الفرد الواحد وتراكميتها، لكن تبرز الهوية الأكثر قربا من الفرد بحكم الالتصاق الاجتماعي أكثر من غيرها بحكم تماس الفرد مع مكوناته القريبة منه في السياق الاجتماعي، وهو السياق الأكثر منظورية للفرد من غيرها. هنا تصبح القبيلة الكيان الأكثر ذوبانا للفرد من غيرها لأنه عايشها بشكل يومي، وتعمل البيئة السعودية بالتحديد على إبرازها في كل مرة.
وليست المشكلة في القبيلة بحد ذاتها كونها، كما قلنا، كانت ولاتزال، مفهوما اجتماعيا وكيانا عاما للفرد، ولا يستطيع الإنسان الانفصال عن قبيلته بسهولة بحكم الانتماء، وهذا شيء طبيعي في ظل ضعف القانون بالعالم العربي كله تقريبا، والتي اضطرت معه المجتمعات العربية إلى أن تستبدلها بالدولة الدينية أو الدولة المشيخية أو الدولة العسكرية، وهذه الدول لم تستطع مجتمعة أن تخلق بيئة فكرية واجتماعية تتجاوز البنى التقليدية بما فيها البنية القبائلية، لذلك عادت القبيلة بتمظهرات عديدة لعل «مزاين الإبل» أحد أشكال هذا التمظهر، وهو بالتأكيد حدث جديد على القبيلة العربية التي كانت مشاريعها أقرب إلى نوع من الاجتماعات الديمقراطية المصغرة لأبناء القبيلة الواحدة (حسب نظرة بعض الدارسين الذين عدوا القبيلة مظهرا ديمقراطيا بدائيا) للنظر في شؤونها وشؤون أبنائها وترحلاتها وإقامتها وعلاقتها بما جاورها من قبائل أخرى، وعلاقات السلم والحرب والزواج، رغم تبدل الحال وتغيره في العصر الحديث، حيث أصبحت الدولة تحل محل القبيلة، فهي إذن مفهوم يتجاوز مفهوم «مزاين الإبل» التي ظهرت حديثا ولم تكن معروفة من قبل.
تكاد أكثر القبائل السعودية أن تضع لها محفلا لتجتمع فيه، وتعرض مزاين إبلها على الحاضرين، وتفاخر بمآثرها القديمة التي لم يعد لها وجود في العصر الحديث. هكذا تعود القبيلة كمظهر فقط، تعيد فيه أمجاد الماضي دون فاعلية حقيقية في عصر الدولة الحديثة إلا في أضيق الحدود، واحتفالات «مزاين الإبل» نوع من المظهر الخارجي لالتحام القبائل السعودية بعضها ببعض دون أن يكون هناك شكل من أشكال التلاحم الذي يرفع من حاجة المحتاج من أبناء القبيلة، بحيث يصبح التلاحم حقيقيا كشكل من أشكال التكافل الاجتماعي.
في حائل يحتفل أبناء قبيلتي (شمر) بمزاينهم، أسوة ببقية القبائل التي سبق أن احتفلت بمزاينها، وهذا كما قلت في المقال، نوع من التأكيد على الهوية، لكن كنت أود من كبار القبيلة والنافذين فيها ذوي السمعة داخل القبيلة وخارجها لو أنهم أبدلوا هذا المظهر الذي لن يغني القبيلة شيئا فهي معروفة قبل مزاينها وبعدها... أقول: كنت أتمنى لو أبدلوه إلى مساعدة أبناء القبيلة المحتاجين لا الافتخار بإبل لا تغني إلا أصحابها، فأبناء القبيلة أهم بكثير من إبلها، والكثير منهم بحاجة ماسة إلى التكافل الاجتماعي بحيث يساعدون المريض ويزوجون الفقير، ويساعدون أبناء القبيلة الذين يريدون إكمال دراستهم في الداخل أو الخارج، أو أن تفك رقبة محكوم، أو غيرها من أشكال التلاحم الاجتماعي الحقيقي، بحيث تتحول القبيلة إلى مجتمع مدني يمكن أن تتحقق من خلاله قضايا كثيرة لا تتحقق مطلقا في احتفالات مزاين الإبل، وهذا الكلام لا يشمل قبيلتي شمر الذين اعتز بانتمائي لهم، وإنما يشمل كل القبائل التي أحترمها وأقدرها بلا استثناء.
إن القبائل السعودية هي كيان اجتماعي لا يمكن الانفصال عنه، ولذلك من المهم أن يتحول هذا الكيان إلى عمل اجتماعي مدني يتحقق من خلالها مفهوم التكافل الاجتماعي، أي العمل على أن تتحول القبيلة من مفاخرها الماضية إلى مفاخر اجتماعية على أرض الواقع بمساعدة أبنائها بكافة الطرق وتحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية بين أبنائها فضلا عن أبناء غيرها.