الترجمة المستحيلة

عبدالملك مرتاض

قد يعتاص على المترجم، مهما يكن بارعا محترفا، اعتياصا شديدا، أن ينقل جمالية الصور الأدبية الأصلية إلى اللغة الأخرى؛ فيضطر إلى «خيانة» النص المنقول منه، فيمثل النص المنقول إليه، في نهاية الأمر، على أي صورة! فيعتقد قارئ الترجمة أن النص الموضوع بين يديه هو نص مطابق تمام المطابقة للنص الأصلي. وقد لا يجد فيه شيئا يحمله على التعلق به وقراءته بالمتعة التي كان ينتظر أن يجدها فيه فيخيب ظنه، ويرتد منه خائبا حسيرا.
ولذلك، فالترجمة الأدبية من أشق الترجمات وأشدها إعناتا للمترجم، وخصوصا الجانب الجمالي، حيث إن من العسير على المترجم أن ينقل الظلال الفنية الآسرة التي تميز عملا أدبيا ما، كبيرا، في لغته الأصلية. ولذلك من العسير نقل الصورة الجمالية الطافحة الماثلة في بيت امرئ القيس، مثلا:
كأني، غداة البين، يوم تحملوا ــ لدى سمرات الحي ــ : ناقف حنظل
ففي هذا البيت تصوير مكثف متراكب متراكم، يعسر على أي مترجم عادي أن يترجمه بالكيفية الجميلة التي ورد عليها في أصله، إلا أن يكون مترجما وشاعرا كبيرا في الوقت ذاته، فإنه سيضطر إلى إخراجه، حينئذ، في صورة أخرى، غير الصورة الأصلية على كل حال، فتكون النتيجة واحدة، وهي خيانة الترجمة لأصل النص الأدبي الكبير!... وأول ما سيساور المترجم هذا التقديم وهذا التأخير في هذا البيت العجيب؛ إذ أصل الكلام قبل أن يحبك شعرا: «كأني ناقف حنظل لدى سمرات الحي يوم تحملوا غداة البين».
ثم إن ظاهر النسج لا يعني المعنى المراد المتخفي وراء الألفاظ؛ فالشخصية الشعرية في شجاها وحيرتها لم تكن تشبه ناقف الحنظل وانتهى الأمر؛ بل إنها كانت تشبهه لأن ناقفه يحدث له هيجان في ذرف الدموع، مثله مثل قاطع البصل الحريف... فالمقصود بهذه الصورة الشعرية غزارة البكاء، وشدة الوجد، وفرط الحزن، وعرامة الحنين؛ وليس نقف الحنظل في ذاته...
وأما حين يتمحض الشأن للكلام القائم على اللعب باللغة، فإن الترجمة تغتدي، حينئذ شبه مستحيلة، ولنضرب لذلك مثلا بقول أحد أفصح خطباء العرب، وهو خالد بن صفوان، حين خاطب شخصا يتهكم منه: «هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وخزمتك مخزوم؛ وأنت من عبد دارها، ومنتهى عارها؛ تفتح لها الأبواب إذا أقبلت، وتغلقها إذا أدبرت»!
فإنما النص هنا قائم على اللعب باللغة على نحو مدهش، وكل جماله في تقطيع ألفاظه، وتدبير إيقاعه، وعرضه بتعليل اشتقاق الأصل في معناه. ويستحيل على أي مترجم أن ينقله لغير القارئ العربي على الصورة التي ورد عليها في أصله.