محمد مهدي الجواهري.. تأريخ العراق يُكتب في قصيدة

محمد بن عبدالرزاق القشعمي

تمر الذكرى الخامسة عشرة على رحيل الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري، والذي ترك بصماته على مدى قرن كامل، فحياته حافلة بأحداث العراق، بل بالأحداث العربية وصراعها مع الاستعمار، بإيقاده شعلة التحرر وإلهاب مشاعر الجماهير التي قادت النضال، ودحرت المستعمر وحققت التحرر.
فلعلنا بهذه المناسبة نستعيد ذكرى زيارة الجواهري للمملكة ومشاركته في المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» قبيل وفاته، وما سمعناه من أن الحكومة العراقية ستكرمه بتحويل منزله إلى متحف يحوي ما ترك من آثار ومخطوطات ومستلزمات شخصية، ليعرف هذا الجيل وما يتبعه رمزا من أبرز رموز هذا الوطن.
ولعلنا بهذه المناسبة نستعيد شيئا من بداياته وكيف بدأ في قول الشعر كما رواها في مذكراته.
ونجد محمد مهدي الجواهري يقول بعد وفاة والده صيف عام 1917م «انفردت بشخصي وتفردت بشخصيتي، مثلما ينبغي لكل مخلوق، قبل ذلك كنت مجرد ظل له ولوصايته المحكمة علي (...) بعد رحيله خرج الشاعر الحبيس من جبة الفقيه ورجل الدين التي فرضت عليه، ومن والدي انتقلت هذه الوصاية إلى رعاية شفافة، لطيفة، خفيفة الظل أغدقها علي أخي (عبدالعزيز) (...) لقد تفتحت على النقاشات المجددة الجريئة في مجالسه التي كان يحضرها معه أترابه وزملاؤه من الطلائع الجديدة (...) لقد أثر في هذا الجو الثقافي المجدد وعجل في انطلاقتي خارج الجو النجفي التقليدي، ومع ذلك فقد بقيت رعاية أخي شبه ثقيلة علي، على الرغم من رحابتها ولطفها، ومن ذلك ما كان من أمر التهيب في ما قد يعثر عليه من قطع أو قصائد شعرية مما كنت أحاول نشره في الصحف العراقية وذلك بسبب ما يساورني من قلق وأنا أواجه من هو أعلم وأشعر مني، حتى لقد فضلت بادئ ذي بدء أن أنشر بأسماء مستعارة، وهكذا فعلت مع أول قطعة نشرت لي في جريدة «العراق» وأنا في الثامنة عشرة من عمري على وجه التقريب، أكان شعورا باطنيا أن يكون عنوان القصيدة: «الشاعر المقبور»؟
دعا الموت فاستحلت لديه مرائره
أخو مورد ضاقت عليه مصادره
عراه سكوت فاسترابت عداته
وما هو إلا شاعر كل خاطره
كان ذلك مني دون أن أخبر أحدا ممن معي، وعشت أياما قلقة وممضة: تنشر أم تهمل؟ تهمل أم تنشر؟ وإذا ما نشرت فماذا سيكون رد فعل أخي «عبدالعزيز» والناس من حولي؟ وبعد فترة قصيرة وبلهفة الانتظار تلقفت الجريدة ذات يوم وإذا بقصيدتي تحتل مكانا بارزا منها.
كيف أصف شعوري؟ لقد تعذر علي من فرط فرحي إخفاء السر حتى وصل الخبر إلى أخي عبدالعزيز الذي جاء إلى البيت بعد أن سمع كثيرا من المديح لتلك القصيدة التي تتحدث عن وحدة الشاعر بأسلوب ضبابي رمزي، وسألني على الفور: «أأنت أرسلت قصيدة إلى جريدة العراق؟» فأجبته وأنا خائف من غضبه: نعم! ولم يكن خوفي في محله فقد قرأت في ملامحه ما يكاد يتمازج فيه المفاجأة وتقبل الأمر الواقع الجديد. وواصلت النشر، وكان ذلك بالنسبة لي حافزا أكبر وبمسؤولية أكبر، وواصلت القراءة والحفظ ليل نهار متلقفا الجديد ومستعيدا القديم ومتابعا تيارات الفكر».