فـنُّ ادّعاء الأفعال الحميدة !!

حسن النعمي

وقف رجل في عهد عمر بن الخطاب بباب المسجد وفي يده تمرة، وكان يقول للداخل والخارج: لقد وجدت هذه التمرة، فهل هي لك؟! فضربه عمر بدرته، وقال: لو كانت أكبر من تمرة لما سألت عن صاحبها.
هذا الموقف بليغ ودال على كثير من أفعال الناس الذين يراؤون بأفعالهم، ولا ينشدون إلا ما يعود عليهم بفائدة. هذا الرجل اتقن حرفة التمظهر، يقدم عملا هزيلا، ويملأ الآفاق ضجيجا. وإذا فتشت عن أثر لما يفعل لم تجد سوى أثر الكلام قد تضخم حتى غلب على الفعل. في مجتمعنا من يزايد بأفعاله الضئيلة ويقنع من حوله برسائله الدعائية دون حياء من مراجعة الآخرين له.
الادعاء يأتي بالقول وهو ادعاء يأتي من بلاغة صاحب الادعاء وحسن إجادته للتلون مع ما يتطلبه الموقف من استغلال ومراوغة.
خطورة الموقف تبدو أكثر تأثيرا عندما يتعلق الأمر بصاحب منبر إعلامي أو منبر دعوي يستفيد منه في تمرير قناعاته، أو تحقيق مكاسب شخصية. في هذه الحالة لا يختلف عن صاحب التمرة الضائعة، ذاك يبحث عن شهرة، وهذا يبحث عن شهرة ومال. أما المبادئ فهي الضحية التي لا تجد من يحميها. في مجتمع لا يحاسب على هذه الظاهرة الزائفة يبقى الوعي ضروريا لإدراك دعاوى هؤلاء القوم. ولعل خطورة دعاواهم يظهر تأثيرها أكثر في جيل الشباب الذي يرى فيمن يكبره عمرا ومقاما قدوة تستحق أن تحتذى.
ولعل أخطر المظاهر شيوعا هو إدعاء الصلاح والتفوق على الآخرين بذريعة التقوى، وهذا النوع من الناس يتغاضى في الحقيقة عن أمر يعرفه جيدا وهو أن التقوى محلها القلب، وليس مظهر الإنسان الخارجي الذي يمكن أن يخدع به العامة، ويبرر لهم ما يراه لا ما هو حقيقي. إن ما يظهر به الإنسان من ملبس أو من كلام متعمدا فيه الاختلاف أو نحو ذلك يعد تصنيفا خطيرا يخرج من باب حرية الاختيار إلى باب المزايدة على الآخرين، وخاصة إذا استخدم في إيذاء الآخرين، بمعنى أن تكون معي أو أنت مختلف عني وربما ضدي.
في عقد الثمانينات الميلادية، زايد المدعون بالدين على غيرهم، حيث جروا مئات الشباب للخروج على أهلهم، وتسفيه آبائهم بحجة عدم التزامهم، ومعاداة مجتمعهم، وخرجوا بدعاوى المحافظة على خصوصية المجتمع، وزهدوا الناس في الدنيا. وعندما ننظر لحالهم نجدهم ممن أثروا بكلامهم، وخلقوا أجواء جنائزية في أوصال المجتمع. وبعد أن تغيرت المرحلة، لم يثبتوا على حالهم، بل ركبوا موجة التغيير، وأخذوا من خير الدنيا الذي زهدوا فيه غيرهم، فربوا أرصدة بالملايين خلافا لدعاوى الزهد التي روجوها بين أفراد المجتمع.
فن ادعاء الأفعال الحميدة تحول إلى حرفة لها اشتراطاتها، لكن يبقى تأثيرها محدودا طالما كانت بعيدة عن التأثير في الآخرين. خطورة الأمر تظهر عندما يكون للادعاء من سبيل على الناس، تأثيرا بالكلمة مثل تصريحات بعض المسؤولين التي تظهر حرصهم. فلا تخلو وزارة من الوزارات التي لها علاقاتها العامة التي تبرر وتدافع وتقدم المأمول تنفيذه في المستقبل. وإذا تأملت هذا وجدت الأمر مجرد إعلام منافح لا يعترف بخطأ، بل يسرد إنجازات وزارته دون أن يظهر منها للعيان ما يشفع.
يحتاج إتقان ادعاء الأفعال الحميدة إلى مهارة عالية قوامها المكر والدهاء وخداع النفس. فقليل من كل هذا يصنع كارثة على المجتمع، فما بالك لو وصلت هذه المهارة لتمامها وامتلكت وسائل أقوى للتأثير. ووسائل الإعلام ليست بعيدة عن ظاهرة الادعاء. فمعظمها تمارس فنون الادعاء فتبرر الانتهاكات الأخلاقية للشعوب على أنه دفاع عن الحريات، وهناك دول تمارس ضد شعوبها غسيل أدمغة بشكل يومي، فتظهر محاسنها إن كان هناك محاسن، وتخفى معايبها حتى لو بلغت ما يحجب الشمس.
ولا تبتعد فنون الإعلان التجاري عن سياق الادعاء، فتستهدف ابتزاز الناس وإغراقهم في الاستهلاك حتى يبقوا أسرى لأشياء في باب الترف أكثر منها في باب الضرورة.
ومن يقوم بالادعاء ليس بالضرورة يبحث عن التصديق، بل ينشد الإذعان حتى تتحول رسائله الدعائية إلى حقيقة راسخة. وهذا السلوك جزء من البرمجة العصبية اللغوية التي تعتمد تكرار المقولات حتى تثبت وتتحول إلى حقائق يصعب نقضها.
halnemi@gmail.com


halnemi@gmail.com