لكي يتحضر العرب لابد أن يتغيروا

حمد عائل فقيهي

(1)
أجدني مشدوداً إلى فهم «متحضر» وماذا يعني.. وأين تبرز وتضيء هذه اللفظة.. في التفكير.. أم في السلوك في المخبر، أم في المظهر.. في الظاهر أم في الباطن..
إن إعمال «العقل» هو مقدمة كل ذلك وتاج هذه المفردات كلها، بما أن إعمال العقل يصنع الحضارة وينتجها ويبدعها، وهو القيمة الذي تتجلى من خلالها قيمة الإنسان في أرقى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من عبقرية تعبر الأزمنة وتُعبّر عن حضارة الأمكنة والشعوب والأمم..
ذلك أن العقل هو ترجمة لأية إشعاع حضاري، ولأي دور يمكن أن تلعبه أي دولة وأية أمة عبر التاريخ.
إن كلمة «تحضر».. ترتبط ارتباطاً جذرياً بمعنى كلمة حضارة.. لأن الإنسان «هو الصورة المثلى.. لما يمكن أن يصل إليه المجتمع»..
إن الحكم على شعب لا يتم إلا من خلال ما يفكر وكيف يفكر.. وكيف يدير مجتمعه وأمته من خلال «منظومة» القيم الحضارية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية وعبر «فهم» حقيقي لما ينبغي أن تكون عليه بنية المجتمع وعبر نُظم تمثل المكون الأساسي للمجتمع والأمة، ذلك أن الانتقال من مرحلة التخلف إلى مرحلة التحضر هو انتقال من معنى إلى معنى آخر ومن حياة إلى حياة أخرى.. إنها حالة افتراق بين حالة اجتماعية إلى حالة اجتماعية.. مختلفة ومفارقة أيضاً..
(2)
ولأن كلمة «تحضر» وفلان «متحضر» في مقابل فلان «متخلف» أجد نفسي كثيراً أمام الثنائية.. بين التحضر والتخلف بين التقدم والتأخر وتتعدد وتتسع هذه الثنائيات، وهي ثنائيات ضاع في مناخها الفكر العربي.. وبحث عن إجابة عليها، منذ أسئلة النهضة العربية التي ظلت مثار حوار طويل، لا ينتهي حتى اليوم، ولم تتلاق السياسة مع طروحات الفكر العربي، وظلت السياسة في حالة تضاد، وفي حالة «طلاق» مع ما ينتجه الفكر العربي.
وثمة تصادم ما بين المثقف والسياسة، وهي ناتج لعلاقة تاريخية لم تتعزز فيها هذه العلاقة ولبناء منظومة القيم الحضارية التي ينبغي أن تكون متلازمة مع «العصر» وما تفرزه ثقافة هذا العصر.
يقول الدكتور محمود سفر في كتابه «الإصلاح» رهان حضاري، «الحضارة.. هي سلوك ونظم وقيم ومعانٍ وأسس ومبادئ وطبيعة حياة يزخر بها مجتمع ما وتسيطر على مجريات الأحداث فيه ويدعمها ويحافظ على بقائها عمل متصل وفعالية عالية مرتفعة».
.. ترى أين معظم العرب من مفردات الحضارة، وهل هي اليوم حاضرة في الحياة العربية عموماً.. وفي مراكزهم العلمية والثقافية، وفي تمثلات المثقف وسلوكه، والمعلم ودوره وأستاذ الجامعة ومسؤوليته، وفي خطاب المفكر وفقه الداعية.. في البيوت، وفي الحوارات، وكيف ينظر العرب لأنفسهم ويحاورون أنفسهم أولاً من أجل أن يحاوروا الآخرين ثانياً..
(3)
إن الحضارة ليست في الماضي فقط ولكنها في المستقبل، إنها ليست مجرد تراكم معرفي وثقافي وفيما هو عمراني وفني وفلسفي وعلمي يظل محصوراً في حقبة زمنية مضت وانقضت وحقبة زمنية غابرة يظل الالتفات إليها مستمراً وحالماً وساهماً.. ولكن الحضارة هي صناعة المستقبل.
وكما عبّر د. سفر في رؤية علمية وفكرية عميقة قائلاً: «إن الأمة القادرة على مواجهة المستقبل هي الأمة الجديرة بالتقدم والقادرة على تحقيقه أما الأمة التي تظل حبيسة ماضيها وسجينة تراثها فهي أمة لا مكان لها في السياق الحضاري». إذن.. الحضارة هي ناتج لتاريخ مضيء مؤسس على العلم والمعرفة، والحرية العدالة ويشكل الإنسان القيمة العليا والكبرى في مسألة البناء والتنمية..
لذلك لا يمكن لمجتمع أن يتحضر إلا إذا تحرر من ذهنيته الضيقة ويرى العالم بعقله، لا بعصبيته ورفضه للآخر، والمختلف ديناً وفكراً وثقافة وحضارة..
ذلك أن الحضارة حوار.. فهل معظم العرب مجتمعات متحضرة؟ فلكي يتحضر العرب لابد أن يتغيروا بالعقل الخلاق.. لا العقل الخائف..
التغيير هو السبيل إلى الإصلاح الحضاري.. وإلى الأخذ بأسباب التقدم.. من أجل بناء تركيبة اجتماعية متصالحة مع نفسها.. ومع العالم.
a_faqehi@hotmail.com