حرب المفاهيم

حسن النعمي

ما يحكم المجتمعات هي المفاهيم التي يمكن أن توجه المزاج العام لأي مجتمع. ليست مجرد مقولات، بل أفكار تلقي بظلالها على سلوك الأفراد. فمن المفاهيم التي تمثل إشكالية في مجتمعنا مفهوم الاختلاط. وهو مفهوم تم تصويره على غير حقيقته، وبسبب هذا التصوير قامت ترتيبات ما كان يمكن أن تقوم لو أن المفهوم كان واضحا.
مصدر هذا التصور إصرار النخبة الدينية على الربط بين مفهومي الاختلاط والخلوة. فإذا كان مفهوم الخلوة الدال على اختلاء رجل بامرأة من غير المحارم محرم شرعا، فإن الاختلاط عكس ذلك تماما. إذ هو مجرد مشاركة في الحياة العامة دون حدود تفصل أو تلقي بتبعات اقتصادية على المجتمع.
هل النخبة الدينية لا تعي هذا الفرق؟ حتما لا، لكن الأمر له علاقة بالاستحواذ والتوجيه دون سند شرعي إلا التأويل المطلق للمفاهيم وتحوير ردود الفعل المختلفة على أنها داعية للفتنة. الربط بين مفهومي الخلوة والاختلاط جاء في سياق الرغبة في الفصل بين الجنسين في الحياة العامة، بحجج منها الخوف من الفتنة وصيانة المرأة من تطفل الرجل، وصيانتها من سوء نفسها. وبهذا المعنى يحمل المجتمع كله على مظنة الفساد وسوء السلوك، مع أن الأصل أن الفطرة خيرة والنزعة الإنسانية سليمة.
امتلاك توجيه العامة وقيادتها مطلب النخب على اختلافها، حتى في الدول الديمقراطية يظل تجييش العامة أحد أهم مفردات الخطاب السياسي. لكن الأمر يختلف، إذ لا مجال لإدخال الدين في مأزق السياسة. وهو ما تبني عليه النخبة الدينية فرضيتها إذ تطالب بالفصل بين الجنسين في الحياة العامة، سواء في أماكن العمل أو في المناسبات الثقافية والتربوية أو في الأنشطة الاجتماعية. وقد استفادت النخبة الدينية من النزعة القبلية عند بعض أفراد المجتمع لتسويغ مفهومها عن الاختلاط، فتمكن القبلي من الديني حتى لم يعد بإمكان أحد من النخبة التراجع عن رأيه. وقد حصل في مناسبات مختلفة تراجع البعض عن فتاوى أو آراء متشددة، وكانت النتيجة رفض هذا التوجيه من العامة قبل الخاصة. وهذا عائد لترسيخ المفاهيم الخطأ التي يصبح تصحيحها فيما بعد صعبا أو مستحيلا.
في سياق هذا الخلط يظهر التناقض بين السماح للأجنبي أن يخلو بالمرأة أثناء قيادة السيارة، وهو أمر أقرب للخلوة، بينما يتم رفض قيادة المرأة خوفا من الاختلاط. الارتباك في مقاربة مفهومي الخلوة والاختلاط هنا تبدو صارخة، ولا مبرر للإصرار على هذا الخلط بين المفهومين إلا المكابرة.
ولتسويغ تحريم ما ليس محرما بدليل شرعي، توافق المجتمع على استخدام التكنولوجيا لغير ما اخترعت له. فالنقل عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة أسهمت في تكريس توجه الداعين لعدم الاختلاط. فصرفت مبالغ هائلة على تركيب أجهزة متطورة لنقل صورة الرجل وصوته لقاعة النساء، وصوت المرأة دون صورتها لقاعة الرجال. المعلوم أن هذه التكنولوجيا وضعت لتقريب البعيد وربط الثقافات ببعضها، وزيادة الروابط التجارية، ومعالجة بعض المشكلات الطبية عن بعد. كل هذه المعطيات المهمة لم نأخذ بها، وأخذنا ما يكرس سلبية العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعنا، وتكريس مفهوم عدم الاختلاط دون الاستفادة منها فيما وضعت له أصلا.
كلنا تابعنا الثورة العارمة على تشغيل المرأة في وظائف (كاشير) بحجة عدم جواز الاختلاط في الأماكن العامة. وهذه الوظائف تحتاجها المرأة لصيانة نفسها وأهلها من الفقر والحاجة. والموضوع ينطوي على مفارقة كبيرة، فالمرأة تتسوق وتقف أمام الرجل الكاشير، فبمفهوم عدم جواز الاختلاط يتوجب عدم السماح للمرأة النزول للأسواق بائعة أو متسوقة. ويصمت المجتمع إزاء تشغيل المرأة في المستشفيات مع أن الحالة واحدة، إنه ضباب الرؤية وعلة الاستحواذ التي لا أصل لها من الوجهة الشرعية. وفي المقابل، لقى تأنيث المحلات النسائية معارضة غير مبررة، إذ المشروع يتسق مع مفهوم عدم جواز الاختلاط. ففي تأنيث المحلات النسائية البيئة نسائية بالكامل، ومع ذلك جاء الاحتجاج بصوت عال جدا. فمتى يتم تكريس فقه الواقع الذي ينتصر للإنسان وحاجاته وضروراته الأساسية؟
المشكلة في نشوء أجيال لا تقبل مناقشة الفكرة، فكرة الفرق بين مفهومي الخلوة الاختلاط فكلها في سلة التحريم واحدة، وهذا ظلم للعقل، وافتئات على الدين. وسيكون مآله وبالا على المجتمع.