كلمة وفاء للدكتور عبدالرحمن السميط

عادل بترجي

تركز وسائل الإعلام على قضايا دولية، أو إقليمية، أو محلية لقناعة مسؤول ما بأهمية تلك القضية في تحقيق الرؤية التي يسعى لتحقيقها، ويأتي الاختيار، ومن ثم تسليط الضوء على القضية؛ لأسباب متداخلة ومعقدة، فقلما نجد قضية مباشرة الغرض منها واضح والأطراف فيها قلة، إذ إن العالم الذي نعيش فيه اليوم أصبح تكتنفه قضايا شائكة لها أبعاد سياسية، واقتصادية، وعسكرية، واجتماعية، تحركها مصالح دولية متداخلة، وتكتلات تشمل دولا كبرى وصغرى. وفي تقديري أن المتابع للشأن الدولي يعلم تماما أن المصلحة هي التي تحرك القرار السياسي.
اليابسة التي نعيش عليها محدودة المساحة والموارد. ومع الزيادة المطردة في عدد السكان عالميا، أصبح التنافس على الموارد الطبيعية حجر زاوية في اتخاذ القرار السياسي. اليابسة التي نعيش عليها مقسمة جغرافيا إلى ست قارات، خمس منها تعتبر في حكم الاستحواذ الاقتصادي الذي حسمته حقبة الاستعمار، والذي اقتسمته الدول التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية. القارة السادسة، أفريقيا يمكن تقسيمها إلى جزأين: شمال، وجنوب الصحراء. ينطبق على شمال الصحراء ما ينطبق على القارات الخمس، أما جنوبها، وهو بيت القصيد، فما زال مغنما يلهث وراءه الطامعون، ولذلك لا أستغرب عندما أجد محطات فضائية كبرى تسلط الضوء على منطقة جنوب الصحراء الكبرى، وتنتشر في أدغالها مئات المؤسسات الكنسية.
الغنيمة في أفريقيا جنوب الصحراء، مثلها مثل أي غنيمة في منطقة جغرافية بدائية مكونة من عنصرين: البشر، والطبيعة. تلهث الدول والشركات والمستثمرون خلف الموارد الطبيعية؛ رغبة في المكاسب المالية، والنفوذ الاقتصادي، وقليل منهم من يهتم بالجانب الاجتماعي، أو الإنساني. وتلتفت القلوب الرحيمة للبشر؛ رغبة في ما عند الله، ومن خلال ذلك الارتقاء بالإنسان روحيا، وعقليا، وبدنيا. من هذه القلوب الرحيمة، قلب سكن صدر الدكتور عبد الرحمن السميط- رحمه الله.
يمكنني القول: إن عبد الرحمن السميط عشق الإنسان الأفريقي، حتى أنه قضى في أفريقيا بين أهلها، وسط غاباتها، وفيافيها، وأمراضها، ومخاطرها، أكثر مما قضاه بين أهله وفي وطنه. ومع أن شيخنا الراحل كان طبيبا متخصصا في الأمراض الباطنية، مما يمكنه من بناء مستقبل واعد، إلا أنه آثر تسخير ذلك للإنسان الأفريقي. لماذا يختار عبد الرحمن السميط، وأمثاله هذه المسالك الوعرة، مع قدرتهم على السير في الحياة في طريق أكثر نعومة واستقرارا؟
يقول السميط: «سألقي عصا الترحال يوم أن تضمن الجنة لي، وما دمت دون ذلك فلا مفر من العمل حتى يأتي اليقين فالحساب عسير. كيف يراد لي أن أتقاعد، وأرتاح والملايين بحاجة إلى من يهديهم». هذا هو السبب. وكان ذلك هو المسلك، فلقي ربه ـ رحمه الله ـ على ذلك، ولا نزكيه على الله.
لما سار السميط على ذلك الدرب الوعر، ورزقه الله ثباتا منقطع النظير، فقضى ما يقارب الثلاثين عاما يدعو أبناء أفريقيا للإسلام؛ فهدى الله على يديه أكثر من 11 مليونا من البشر. ليس ذلك فحسب، بل قام بتعليمهم، وتغذيتهم، وتطبيبهم، وعاش بينهم كواحد منهم؛ فسكنت محبته قلوبهم.
ولعل من أبرز ما قام به السميط ـ رحمه الله ـ أن أسبغ على الدعوة صبغة تنموية، عندما أدرك أنه من المستحيل التفكير في دعم وترسيخ الهوية الإسلامية للشعوب الأفريقية من دون العمل على تنمية تلك المجتمعات؛ لأن معظمها كان يعيش تحت خط الفقر الممتهن لكرامة الإنسان، وبالتالي تغير مفهوم الدعوة لديه من دلالات المصطلح التقليدي إلى فهم شمولي للنهوض بالمجتمعات المسلمة الأفريقية نهضة شاملة من خلال إقامة مشاريع تنموية بسيطة تناسب المجتمعات التي استهدفها للدعوة مثل، فتح بقالات، أو تقديم مكائن خياطة، أو إقامة مزارع سمكية؛ حتى تعين أهلها على تكاليف الحياة والاعتماد على النفس، وبالتالي حفظ كرامة الإنسان، ولذلك أصبح السميط قدوة، ومثلا، سار على دربه مئات المؤسسات الطوعية، ومئات الألوف من الشباب والعاملين في العمل الخيري.
كان السميط ـ رحمه الله ـ حكيما في نشر الدعوة، فعلى الرغم من وجود مئات المؤسسات الكنسية في أفريقيا، إلا أنه تعايش مع ذلك الوجود بحكمة واتزان، فكان ينهى عن المساس بدور العبادة المسيحية، والشعائر الدينية، لغير المسلمين في القرى التي يدخل أهلها في الإسلام، وانتقد بشدة الدعاة الذين يزورون بلدان الأقليات المسلمة، وينشرون فتاوى متطرفة ضد النصارى، أو يثيرون فتنا كبرى بين المسلمين حول قضايا صغيرة قد تسبب في زيادة العداء للإسلام، وتعطيل الدعوة بين الناس هناك. ولعل من أبرز حكمة السميط، أنه لم يعرف عنه أنه واجه بعداوة التوجه الكنسي في أفريقيا، بل ناقش بالحجة والبرهان المستمدين من الإسلام، القساوسة القائمين عليه، حتى أن البعض منهم دخل في الإسلام.
أفضى عبد الرحمن السميط، إلى ما هو أفضل مما كان فيه، وترك من خلفه أبناء أفريقيا أيتاما، يلتمسون من عند الله خلفا له يملأ شيئا من الفراغ الذي أصابهم بفقده. رحمك الله يا شيخنا الفاضل لقد أتعبت من بعدك.