المـراكـز الجديـدة للثقافـة العربيـة

شوقي بزيع

لعقود خلت لم يكن الحديث عن النمو غير المتكافئ في الثقافة العربية بعيدا عن الصحة تماما. فلأسباب تاريخية واجتماعية وسياسية مختلفة بدت هذه الثقافة وكأنها تأخذ شكلها الطليعي في المربـع الذي تمثله القاهرة وبيروت وبغداد والشام في حين كانت عواصم وأقاليم أخرى أقل حيوية من مثيلاتها وأكثر بطئا في نزوعها إلى التجديد. وهو ما بدا جليا منذ حقبة عصر النهضة التي شكلت القاهرة وبيروت ثنائيها المتناغم، وصولا إلى حقبة التجديد الشعري والأدبي التي أتاحت لعواصم أخرى كبغداد ودمشق أن تنضم بقوة إلى خارطة الحداثة الشعرية.ولم يكن الأمر ذاك محض صدفة بالطبع بل إن الانفتاح المبكر لبيروت على الثقافة الغربية عبر الإرساليات والمعاهد والجامعات ونشوء الصحافة في القرن التاسع عشر أتاح للمدينة أن تلعب دورا تأسيسيا في قيام النهضة.
وهو دور عززه الأدب المهجري، وجبران على وجه الخصوص، ومكنه من الحرب على جبهتين: جبهة تطويـر اللغة وجبهة الحث على الحريـة، أما القاهرة فقد استطاعت، في حقبة مابعد الغزو البونابرتي وعبر الاستقلال عن الدولة العثمانية الهرمة، أن تتحول مع محمد علي باشا إلى «ورشـة» تنويرية مفتوحة على العلوم والثقافات المختلفة.لا يحتاج المرء إلى كبير عناء لكي يكتشف تبدل الأحوال وتغير مآلها منذ الثلث الأخير للقرن العشرين. فأفكار الحريـة والتنوير لم تعد حكرا على أحد. والاتصال بالغرب والتفاعل مع الثقافات الوافدة بدا سمة كونية منذ ذرت العولمة قرنها في أربع رياح الأرض. وهو أمر يجد تمثلاتـه الأبرز في دول المغرب العربي حيث ظل هذا الاتصال منذ الحقبة الأندلسية مصدرا للثنائيات اللغوية وانثلام الهوية من جهة، وللثراء الفكري والثقافي من جهة أخرى. ولم تكن المجتمعات الخليجية المتنوعة بمعزل عن هذا الحراك المتسارع الذي أتاح لها بعد لأي أن تعبر بجرأة ملحوظة عن هويتها الثقافية والإبداعية، خارج الصورة النمطية المتصلة بالنفط وتكديس الثروات.
إن من يتأمل الآن في المشهد الثقافي العربي سيلفته دون شك التغير الدراماتيكي الذي أصاب هذا المشهد ونقله من حال إلى حال بحيث تبدو عواصم ما سمي ذات يوم بدول الأطراف، من مثل الرياض وأبو ظبي والبحرين والكويت وصنعاء ومسقط وتونس والرباط وغيرها نابضة بالحياة وآهلة بالتجارب الجديدة على مستويات الشعر والرواية والفنون المختلفة..
وعلى عكس المراكز الأم التي استنفدت معظم احتياطيها الإبداعي والروحي، تحتفظ المراكز الجديدة بمعظم مخزونها الإبداعي وطاقتها الحيوية التي لم يتم استنفادها بعد، ولعل انتزاع الكاتب الكويتي سعود السنعوسي لجائزة البوكر للرواية العربية هذا العام ليس سوى تأكيد إضافي على الدور المستجد الذي تلعبه المراكز الجديدة في إغناء الثقافة العربية ومنعها من الجفاف والتأسن، بعد أن كانت أسماء مماثلة من مثل السعوديين عبده خال ورجاء عالم قد سبقت صاحب «ساق البامبو» إلى نيـل هذه الجائـزة المرموقة.. وما يصح على الروايـة يصح على الشعـر والنقـد والفنون الأخرى، حيث الجوائـز ليست المعيار الوحيد، ولا الأهم، للفـرادة والتمـيز.