المشاريـع الاقتصاديـة المتـعـثـرة ..الواقـع والمأمـول

محمد مفتي

لا شك أن اقتصاد المملكة يعد أحد أقوى اقتصادات العالم، إذ يحتل المرتبة الثانية عالميا في الصندوق السيادي النقدي كاحتياطات نقديـة، حيث تصل قيمته إلى قرابـة 600 مليار دولار طبقا لإحصائيات مؤسسة النقد السعودي، وعلى الرغم من ذلك يلاحظ أن قوة هذا الاقتصاد لم تنعكس بصورة قوية وإيجابية على إجمالي المشاريـع التنموية، بمعنى أنها لا تسبب حراكا اقتصاديا ملموسا، ويعود هذا الأمر لأمور عديدة لعل أهمها تعثر المشاريـع الاقتصادية، برغم ضخامة حجم الاستثمارات فيها. هذه الظاهرة برزت بوضوح خلال الآونة الأخيرة، وبدأت أعدادها وقيمتها وأحجامها تتخطى المعدلات الطبيعية أو المقبولة، وهو مؤشر سلبي له الكثير من الآثار غير المرغوبة التي لها الكثير من التداعيات على حياة المواطنين بشكل خاص وعلى العملية التنموية بشكل عام في آن واحد.
المقصود بالمشروعات المتعثرة تلك المشروعات التي يكون لها جدول زمني تنفذ من خلاله على عدة مراحل، ويتم البدء في العمل فيها ثم تتوقف لأسباب عديدة تنحصر في كونها إما أسبابا إدارية، أو فنية، أو مالية. عادة ما تكمن أسباب تعثر المشاريـع في عدم الإعداد الجيد لمواصفات المشاريـع وشروطها قبل طرحها في المنافسة، لذلك نجد الكثير من المشاريـع تتعثر بل تتوقف بسبب كثرة التعديلات التي تطلبها الجهة المالكة من المقاول، أو ضعف كفاءة أعضاء لجان التسلم الابتدائي والنهائي للمشاريـع، والتي ليس لها القدرة على اكتشاف الأخطاء وأوجه التقصير الملحوظة في تنفيذ المشروع إما عن عمد أو جهل، يضاف إلى ذلك إسناد الأعمال من الباطن لجهات أخرى ربما تنقصها الخبرة سواء حدث ذلك بعلم الجهة صاحبة المشروع أو بعدم علمها. لكن في جميـع الأحوال فإن كل تلك المسببات تتـم نتيجة ضعف الدور الرقابي والإشرافي من الدولة على المشاريـع وعدم اهتمام الجهات المتعاقدة للمشروع بالمتابعة الدقيقة واللازمة للمشروع سواء كانت تلك المتابعة ميدانية أو مكتبية.
كما أن هناك أسبابا مالية تمثل أيضا عنصرا هاما ولا ينبغي تجاهله وهو التأخر في سداد مستحقات المقاولين حتى وفق الجداول المحددة سلفا، للأسف فإن الأنظمة الحكومية تلزم المقاولين بتنفيذ العقد طالما تـم توقيعه وحتى لو تأخرت دفعات الاستحقاق، وهو ما يمثل عبئا على المقاولين الذين يتلكأون من جانبهم في عملية التنفيذ إلى أن تصلهم مستحقاتهم، وذلك في الوقت الذي تلزم فيه أغلب القوانين الدولية الجهات المالكة للمشروع بالدفـع للمقاولين خلال 30 يوما من تاريخ الاستحقاق.
إن وضع حلول ناجعة لعلاج هذه الظاهرة المؤرقة هو أمـر يتعذر كثيرا دون الاهتمام بنقطتين جوهريتين، الأولى هي التحديد الدقيق لأسباب تعـثر المشاريـع قبل البدء في وضع أي حلول لها، بعبارة أخرى هل تتعثر بعض المشاريـع دون الأخرى؟ وهل تتعثر جهات بعينها دون جهات أخرى؟. هناك نماذج ناجحة في إدارة المشروعات التنموية لدى بعض مؤسسات الدولة مثل الهيئة الملكية في الجبيل وينبع وشركة أرامكو، أيضا تلك المشاريـع الخاصة بوزارة الدفاع والتي يشرف على تنفيذها قطاع إدارة الأشغال العسكرية، ويمكن لقطاعات الدولة الأخرى الاستفادة من تجارب هذه المؤسسات وبما يساعد على تسريـع العملية التنمويـة..
أما النقطة الثانية فتتمحور حول الرؤية الاستراتيجية والتخطيطية للإعداد للمشاريـع، فرغم الأهمية القصوى للأرقام الكبيرة للمشاريـع المتعثرة والشعور بالحسرة تجاه الأموال المهدورة، هناك ما هو أهم من ذلك وهو هل تستحق هذه المشروعات أصلا هذه الأرقام المدرجة في الموازنة ؟، ألسنا بحاجة إلى إعادة هيكلة وجدولة للمشروعات طبقا لأولوياتها ؟، لماذا نولي أهمية قصوى للتفاصيل الصغيرة ولا نلتفت كثيرا للبعد الاستراتيجي ؟، من الأهمية بمكان أن نعيد النظر في رؤيتنا للمشاريـع الاقتصادية التي تمثل حجر الزواية في سيرورة عملية تنميتنا المستدامة، وأن نعيد ترتيب أوراق البيت من الداخل ونعيد هيكلة منظومتنا الاستراتيجية الاقتصادية، فالمشاريـع المتعـثرة لا تهـدر الكثير من المال والوقت والجهد فقط، بل تمثل عوامل ضغط على المؤسسات القائمة بالفعل، وتسعى لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء.