تقنين الأحكام القضائية

حسن النعمي

القضاء بنية أساسية لنمو المجتمعات من خلال رد الحقوق، والاقتصاص، وإشاعة ثقافة العدل عند الخصومات. ولا تستطيع أمة من الأمم أن تذهب بعيدا في تنميتها دون قضاء محكم يعرف أبعاده كل أطراف التقاضي سواء المدعي أو المدعى عليه، أو من يقوم بالترافع.
في مجتمعنا التقاضي قائم على المدونة الفقهية الشرعية التي تراكمت عبر مراحل ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي. فتقليديا القضاء في المملكة قائم على وسائل تقليدية سواء في الفهم أو في التطبيق، مع اختلاف أنماط الحياة وما تستدعيه من أفكار إبداعية للفصل بين المتخاصمين.
المدونة الفقهية القديمة فيها من أنماط الأحكام، وقضايا الفصل في المنازعات، ما يناسب عصرها من ناحية، وما يمكن أن يستوعب في هذا العصر ضمن وسائل التقنين ومواكبة احتياجات التقاضي.
وليس من الحكمة تجاوز هذه المدونة الفقهية العظيمة، لكن إعادة قراءتها واستيعابها وتقنينها من شأنه أن يقدم خدمة جليلة تنفع ولا تضر، تبني العدل ولا تتعارض معه. فتقنين القضاء لا يعني الإلغاء، بل يعني استيعاب الفقه في عصر مختلف. لا يعني المساس بالحدود المنصوص عليها شرعا، فلا اجتهاد فيما هو منصوص عليه في القرآن أو السنة الصحيحة، بل مناط الحديث هنا يتعلق بأحكام التعزير التي للقاضي الاجتهاد فيها بما تمليه ظروف التقاضي. من هنا ينشأ التباين في الأحكام في قضايا متشابهة. وعليه، تظهر نزعة الامتعاض وعدم التسليم والتشكيك من قبل المتخاصمين وذويهم، في وقت يتوقع أن المحاكم جهات موثوق بها، يرتاح لها المتخاصمون، ويسلمون بأحكامها. لكن واقع الحال ينبئ عن اختلال منهجي في أحكام التعزير الصادرة، لأن الأمر متروك لاجتهاد القاضي وملابسات القضية.
عند تدوين الأحكام وتقنينها وفق القضايا التي صدرت من المحاكم، وتصنيفها، ووضعها في بنود ينص فيها على القضية والحكم الملازم لها. هنا يتم ضبط أحكام التعزير بدرجة يسهل معها مراجعتها من قبل المتخاصمين، أو المحامين، ويصبح القاضي بعيدا عن شبهات الانحياز. فهناك فوائد جمة لتقنين أحكام التعزير، منها:
تقييد سلطة القاضي، فالقاضي مخول للتأكد من ثبوت الأدلة والقرائن التي تدين أو تبرئ من رفعت القضية ضده، أما الحكم فمنصوص عليه مسبقا، حيث لا اجتهاد فيه. كما أن سلطة القاضي مقيدة فلا يستطيع إصدار حكم خارج المنصوص عليه. ففي حالة عدم تدوين الأحكام قد يتصرف القاضي في العقوبة وخاصة عند مراجعة بعض المتخاصمين لسير القضية، فيأمر القاضي بإصدار عقوبة أو تغليظها بسبب احتجاج أحد المتقاضيين. وهو حكم في هذه الحالة خارج سياق القضية، ولأن القاضي بشر قد يتعرض لبعض الضغوط مما يخرجه عن مسار القضية فمن الواجب حمايته بتقنين القضاء والأحكام. يجب وضع توصيف لعقوبة إهانة القضاء وجعلها قضية منفصلة، ويبت فيها قاض آخر في دائرة أخرى بحكم معلوم مسبقا قبل التقاضي. هنا يحفظ القضاء للقاضي هيبته، لكن مع تقييد سلطته في إصدار الأحكام غير المنضبطة شرعا وقانونا.
كما أن تقنين القضاء في مسائل أحكام التعزير يعزز ثقة المتخاصمين، فبمجرد معرفة الحكم يصبح التقاضي على أساس إثبات الأدلة أو نفيها. ولا يكون الشغل الشاغل كيف سيكون الحكم، فلا مفاجآت، ولا انحياز، بل عدالة يرتضيها الجميع. كما أن تقنين القضاء عمل يساعد المحامين على سهولة التعامل مع القضاة، بل يصبح عملهم جزءا من تحقيق العدالة.
إن من ضرورات الحياة المدنية التي يسير نحوها مجتمعنا وجود قضاء ينير للناس ما خفي عليهم، ويشعرهم أن التقاضي مكون مهم في رد الحقوق وفرض الواجبات عند التقاضي بأحكام معلومة للمتخاصمين وللمحامين، وقبلهم من يتولى النطق بالحكم. فمجتمع يضم عشرات الجنسيات من العاملين في بلادنا وبديانات مختلفة يتوجب السير حثيثا نجو مدونة قضائية شاملة لكل أحكام القضاء معتمدة على مصادرها التشريعية كما أقرتها الشريعة الإسلامية، لكن مع وضوح في تفصيل القضايا وما يقابلها من أحكام. هذا الإنجاز القضائي سيوضح للعالم الخارجي كثيرا من طبيعية الأحكام القضائية التي تسبب قلقا وسوء فهم لكثير من الدول فيما يخص رعاياهم، كما سيقلل أو يوقف حملات التشويه التي يتعرض لها القضاء بسبب تفاوت الأحكام في قضايا قد تبدو متشابهة.