الكلفة الباهظة للجمال الفلسطيني

شوقي بزيع

تكاد فلسطين تكون يوتوبيا العرب الأرضية وفردوسهم المفقود الذي لم ينفكوا يحلمون باستعادته منذ أكثر من ستة عقود. صحيح أن الفلسطينيين الذين أكرهوا عنوة على مغادرة أرضهم وبيوتهم، والذين ما زال بعضهم يحتفظ بمفاتيح تلك البيوت حتى اليوم، هم المعنيون أكثر من سواهم بتلك العودة، ولكن ليس من عربي صميم إلا ويشعر بثلم في الكرامة وشغور في الروح وطعنة في القلب. ومع ذلك فإن الشعور بفداحة ما خسرناه يبلغ ذراه القصوى حين يتاح لأحد منا أن يرى فلسطين بالعين المجردة، دون أن يستطيع وطأها بالأقدام أو تحسسها بالأنامل. إنه شعور مركب وموزع بين سحر الانتشاء بالجغرافيا الفلسطينية وبين الغصة الناجمة عن فقدانها، بين الإيغال بعيدا في التاريخ المضمخ بالقداسة والمشرع على المفاجآت ودوال الدول، وبين الأمل غير «المزغول» بالخروج من زمن الهزائم وتصحيح المسار المعوج للزمن العربي. لقد اختبرت هذا الشعور بالمرارة مرات عدة، كان آخرها في عيد الأضحى المبارك، حين ذهبت برفقة العائلة إلى قرية مارون الراس التي تتربع فوق أعلى قمم الجنوب، والتي تطل على أرض اللبن والعسل، وصولا إلى جبل الكرمل ومنحدراته الخضراء. وفي تلك اللحظة الملتبسة التي تداخل فيها السحر المشهدي وألم العجز عن امتلاكه، تنهدت أمي تنهيدة طويلة وقالت بحرقة «ضيعانك يا فلسطين». كنت قبل ذلك بسنوات قد عشت حالة التمزق ذاتها حين زرت مع بعض المدعوين إلى مهرجان جرش في الأردن قرية أم قيس التاريخية التي اتخذها الرومان حصنا لهم، والتي تشرف بدورها على جزء من الشمال الفلسطيني. ومن حيث وقفنا على القمة استطعنا أن نرى الجولان المحتل وجبل الشيخ وبحيرة طبريا وتخوم بيسان والأطراف الأخيرة للجنوب اللبناني. كما تراءت لنا سفوح الحمة ومجرى اليرموك، والمثلث الجغرافي السحري الذي يصل سوريا بالأردن وفلسطين المحتلة. تذكرت ــ آنئذ ــ أن ما نراه أمامنا هو «سرة العالم» وواسطة عقده الأجمل. وتذكرت أن بموازاة النهر الذي نراه في الأسفل ثمة أنهار من الدم قد تمت إراقتها، لا تنازعا على الأرض وحدها، بل على السماء أيضا. ففي ذلك المكان خاضت جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد معركة اليرموك الشهيرة التي انتصروا فيها على الروم. وفي ذلك المكان انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في معركة حطين. وفي المكان إياه وضع المماليك في معركة عين جالوت حدا نهائيا للزحف المغولي على بلاد الشام. كان ذلك زمن الانتصارات المجيدة. أما في زمن الهزائم فقد وقف الجنرال الفرنسي غورو على قبر صلاح الدين ليصرخ شامتا في مطالع القرن الفائت «ها نحن عدنا يا صلاح الدين»، ولنخسر بعدها بعقود فلسطين برمتها وأجزاء غالية من الأرض العربية المجاورة. إنها نعمة الجغرافيا ونقمتها في آن واحد. إنه الجمال الأبهى الذي لم يكن يوما أعطية مجردة أو هبة مجانية، بل علينا لكي نستحقه أن نهبط إلى البئر الأخيرة للألم والتضحية والمكابدة.