المعاملة بالمثل

طلال صالح بنان

نظريا (قانونيا وسياسيا) يأخذ النظام الدولي، في ما يخص تنظيم العلاقة بين أعضائه من الدول، بمبدأ المعاملة بالمثل. فمن حق الدولة التي تتعرض لإجراء ما من قبل دولة أخرى أن ترد بإجراء مماثل، دون ما شبهة تصعيد، حفاظا على مبدأ المساواة بين الدول، وتفاديا لتدهور العلاقة بين الدول.
إلا أنه لا يجب أن يؤخذ تطبيق هذا المبدأ على إطلاقه المجرد. في العلاقات بين الدول، كما هي الحالة في العلاقة بين الأفراد، هناك فرق بين مجرد احتمال وجود الخيار وبين واقع القدرة على الإقدام على رفاهية الأخذ به. ما يحكم العلاقة بين الدول هو واقع ميزان القوى السائد بينها. مجرد وجود الخيار متاحا، لا يعني بالضرورة توقع الأخذ به عند حدوث تطور يبرر تفعيله. ما يجب أخذه في عين الاعتبار هنا ليس فقط مجرد وجود حق الخيار بين البدائل المتاحة، بل حسابات الربح والخسارة التي تحكم فعليا العلاقة بين الدول.
على سبيل المثال: هناك فرق بين أن تلجأ دولة قوية وغنية إلى ممارسة حقها في ساحة السياسة الدولية، حتى أحيانا لدرجة الاستبداد في استخدام هذا الحق، وبين وجود الخيار نفسه متاحا لدولة أقل إمكانات بل إن هذا الميزان الحساس للقوى بين الدول هو الذي يفسر عملية الإقدام على عمل تصعيدي على الساحة الدولية يمكن أن يكون عامل عدم استقرار حقيقي لطبيعة وواقع حركة السياسة الدولية الهشة والضعيفة، من قبل طرف دولي قد يصيب أو يخطئ في حساباته. قد يردع دولة كبرى وغنية على الإقدام، على سبيل المثال، على إجراء ما تجاه دولة صغرى، اعتبارات معنوية اعتبارية وليس بالضرورة اعتبارات مادية عسكرية أو اقتصادية، مثل الحفاظ على هيبة هذه الدولة ومكانتها في النظام الدولي.
فعندما تقدم دولة على قطع علاقتها أو تخفيض مستوى تمثيلها مع دولة أخرى، قبل التسرع في توقع رد فعل الدولة الأخرى علينا الحساب بدقة لمستوى علاقات القوى وطبيعة العلاقة بين تلك الدولتين. وإن كان القانون الدولي يعطي الحق للدولة الأخرى أن تتصرف بنفس القدر من رد الفعل، إلا أن ذلك ليس بالضرورة له أن يحدث.
على سبيل المثال: في العلاقات المصرية الإسرائيلية، كثيرا ما تلجأ مصر إلى استدعاء سفيرها من تل أبيب بل قد تلجأ إلى طرد السفير الإسرائيلي نفسه، ولا تقوم إسرائيل بإجراء انتقامي مماثل، و«تبلع» الإهانة الإعلامية والدبلوماسية، على أن تخسر أكبر طرف عربي يقيم علاقات دبلوماسية كاملة وتربطها معه معاهدة سلام!
وما حدث بين القاهرة وأنقرة مؤخرا من إقدام مصر على إبعاد السفير التركي من القاهرة وتخفيض مستوى التمثيل مع تركيا لدرجة قائم بالأعمال، دفع أنقرة لإجراء شكلي مماثل، بإعطاء السفير المصري في أنقرة حتى 29 الشهر الحالي لمغادرة البلاد، وإن كانت الدبلوماسية المصرية استبقت مثل هذ الإجراء من أنقرة بأن قامت باستدعاء سفيرها في أنقرة قبل أن تعلن أن سفير تركيا في القاهرة شخص غير مرغوب فيه. نلاحظ أن كلا العاصمتين أقدمتا على تصرف سلبي يطال مستوى العلاقات الدبلوماسية بينهما، دونما نية مسبقة في التصعيد. في خضم هذا التطور الدبلوماسي السلبي بينهما حرص كلاهما ألا يستتبع إجراءه الدبلوماسي بتصعيد إعلامي يزيد من حدة توتر العلاقة بينهما. بالإضافة إلى أن ما ظهر من حيثيات تبرير تصرفهما لا ينبئ بنبرة تصعيدية أكثر من محاولة ممارسة السيادة من قبل مصر والتمسك بحق الرد المتوازن بالمعاملة بالمثل من قبل تركيا.
حق المعاملة بالمثل تحكمه متغيرات سياسية واستراتيجية حساسة، وليس فقط قيم التأكيد على المساواة النظرية بين الدول.