عدوان يقاوم الاستبداد بعد رحيله

شوقي بزيع

قليلون هم الشعراء الذين رأوا إلى الحياة بوصفها وليمة عامرة بالبهجة والمرح وأطايب العيش، كما فعل الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان. والذين يذكرون صاحب «وعليك تتكئ الحياة» الذي توفي في مثل هذه الأيام قبل تسع سنوات، يذكرون معه ضحكته المجلجلة التي أصبحت مع الزمن علامته الشخصية الفارقة، ويذكرون في الوقت عينه قدرة الشاعر غير المحدودة على إشاعة مناخ المودة والظرف والنكتة اللماحة في كل مهرجان أو مناسبة أدبية يحضرها. على أن «زوربا» السوري لم يترك لاحتفائه بالحياة أن يقوده إلى الكسل والتبطل، بل عرف كيف يوازن بين العيش والكتابة، بحيث أنتج في زمن قياسي عشرات الدواوين والمسرحيات والروايات والترجمات والنصوص الدرامية التلفزيونية.
لم يتح لممدوح عدوان أن يمط حياته قليلا بما يكفي للوقوف على الجحيم السوري، وعلى قرار شعبه الحاسم باستعادة حقه في الحرية والعدالة والكرامة. ولو أنه أدرك ذلك الجحيم لانحاز دون شك إلى صف الفقراء والمهمشين والمضطهدين الذين حفلت أشعاره بالدفاع عنهم والإنصات الدؤوب لصدى جراحاتهم في شرايينه. وهو ما يفسره قول محمود درويش في رثاء صديقه الذي سبقه إلى الرحيل «من فرط ما أهنا بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع أثار علينا غضب المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض. ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبة في الضحك معك على عورة بردى المكشوفة كأسرارنا القومية.
لقد بدا ما قاله محمود في رثاء صديقه أقرب إلى حدس الشعراء واستشعارهم بالزلازل القادمة منه إلى أي شيء آخر. لا بل ثمة تقاطعات كثيرة ربطت بين قدري محمود وممدوح بما يتجاوز تشابه الأسماء ويتصل بالمصائر المؤلمة التي جعلتهما يسقطان معا في شرك الموت، وهما في ذروة العطاء والتألق. وكما صدر لمحمود بعد رحيله ديوانه اللافت «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، صدر لممدوح قبل أسابيع ديوان شديد التميز بعنوان «قفزة في الهواء». على أن الفروق بين الديوانين لا تقتصر على اللغة والأسلوب، بل تتعداهما إلى مناخات القصائد، التي جنحت عند الأول إلى مصالحة الموت والانصياع له بعد منازلة ضارية، وذهبت عند الثاني إلى مساحات شديدة الجرأة من البوح العاطفي أو المواقف السياسية الجريئة. لكن مفاجأة ممدوح الحقيقية تتمثل في قصيدته الملحمية الاستثنائية التي وضع لها عنوان «قصيدة/ هناك». هذه القصيدة المفاجئة بكافة المعايير كان ممدوح قد كتبها إثر مجازر حماه الشهيرة عام 1982 م، ولم يجرؤ على نشرها في تلك الفترة خوفا من أن تتسبب بهلاكه. وإذا كان للنقد الأدبي الأكاديمي ما يقوله في الجوانب الفنية من القصيدة، فإن قيمتها الأهم تتمثل في كونها وثيقة نادرة ضد الظلم والعسف والقتل الجماعي، وهي التي ختمها الشاعر بقوله: «سأقول هذي آخر الكلمات/ هذي آخر الصرخات/ هذي آخر الأبيات/ صار الدور عندي/ فاقتلوني/ يا أيها القتلى خذوني من جنون الأهل/ فالطغيان متجه إلي بجنده/ ولذا اسبقوهم واقتلوني!».