الإعلام العربي يعيش أزمة حقيقية

انتقد القصور في عملية التوثيق.. الشبيلي لـ عكاظ :

حوار: أحمد عائل فقيهي

هو أحد أبرز الباحثين والمؤرخين للشخصيات الإعلامية والسياسية والاجتماعية والدبلوماسية في المملكة، ومن الذين ساهموا في إضاءة الكثير من الجوانب والمناطق المهمشة في التاريخ الإعلامي، وواحد من الشهود على محطات مهمة في هذا التاريخ.
الدكتور عبدالرحمن الشبيلي يتحدث هنا عن قضايا ومسائل في أهمية التوثيق في الكتابة والبحث وعن الأفكار اللافتة التي ينبغي أن تساهم في صناعة وصياغة الإعلام.


تعمل على توثيق تاريخ الإعلام السعودي.. إلى أين وصل هذا المشروع التوثيقي العلمي لهذا التاريخ وأعلامه؟
إن معظم أعمالي المستمرة بقدر الممكن هي ــ على تواضعها ــ تصب في اتجاه توثيق تاريخ الإعلام الوطني، وكنت منذ عامين بدأت مشروعا توثيقيا طموحا، تقوم فكرته على عرض الوثائق المتصلة بالإعلام مما يتوافر لدي، وتقديم شرح لها وإعطاء فكرة عنها وعن تاريخها وخلفياتها، والمشروع يتوازى مع كتاب توثيقي صدر لي قبل أربعة عشر عاما بعنوان: الإعلام في المملكة العربية السعودية ــ دراسة توثيقية وصفية وتحليلية، بمعنى أن يكون أحدهما عرضا للمعلومات التاريخية، ويقدم الآخر الوثائق الداعمة للأول، ولا يزال المشروع في مراحله المبكرة، بسبب مزاحمة المحاضرات التي تطلب بين حين وآخر وتستنفد الوقت والجهد، وأتطلع إلى أن يتوافر لدي الوقت الكافي للتفرغ له.
والحقيقة أن مؤسساتنا الإعلامية ــ من صحافة وإذاعة ومحطات تلفزة بالإضافة إلى الوزارة، وكذلك المؤسسات التعليمية وأعني بها أقسام الإعلام بوجه أخص ــ قد قصرت عبر العقود في تدوين تاريخ الإعلام المحلي، بينما يذكر في المقابل ــ للإذاعة السعودية وللتلفزيون في وقت مبكر من نشأتهما ــ أنهما قد وثقا تلك النشأة تاريخيا، فأصدرا كتيبات سجلت تلك الحقبة ؛ مراحلها وتطوراتها ورموزها.
إن درب التوثيق الإعلامي درب طويل يتطلب الكثير من الجهد والوقت، والنجاح في تحقيقه مقياس لنجاح المؤسسة نفسها ودليل على تفوقها، وهنا أذكر أن كثيرا من مؤسساتنا الإعلامية وكذا التعليمية «تمشي بالبركة"، ومع ذلك تسمى وسائل إعلامية وتعليمية، وهنا ــ في المقابل ــ يمكن ضرب المثال بمؤسسة عكاظ الصحفية، لا مجاملة معها ولا رياء، فهي عندما تنفق على تطوير مركز المعلومات عندها أو عندما تصدر نسخة جديدة من موسوعة الشخصيات السعودية، فإنه أمر يحتسب لها في سبيل التوثيق الإعلامي، وكذلك الأمر عندما تعمل على فهرسة أعدادها القديمة وتكشيفها بغض النظر عن المردود المادي لهذا الجهد الكبير، فهذه الأعمال التوثيقية النوعية هي ما يميز مؤسسة صحفية عن أخرى، ويجعلها تتفاوت عن بعضها.
قبل نحو عام ألقيت محاضرة في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود وتمنيت عليه إنشاء قسم للتوثيق الإعلامي، تدريسا وفهرسة وحفظا، وأشعر أن من واجب وزارة الثقافة والإعلام أن تبدأ بنفسها، وأن تعمل على تشجيع المؤسسات الإعلامية التابعة لها، وعلى حثها على إنجاز مثل هذه الأمور وإيجاد المنافسة بينها والحوافز لها، فالعمل الإعلامي لا ينبغي أن يتوقف على مجرد إصدار الصحيفة اليومية، ولا أن تكتفي بدوام مسائي يتم فيه تجهيز الصحيفة ثم يتوقف العمل حتى اليوم التالي وهكذا.
كيف تنظر إلى واقع الإعلام المحلي والعربي اليوم قياسا بإعلام الأمس؟
عقدت قبل أيام في محافظة الغاط، وضمن منتدى عبدالرحمن السديري للدراسات السعودية، ندوة موضوعها؛ الإعلام اليوم: إعلام بلا حواجز، وقد أجمع المنتدون من حيث المبدأ على ضعف مستوى الإعلام الرسمي وعلى انحسار الجماهير عن تلك الوسائل، كما اتفقوا على أن الإعلام الرسمي العربي اليوم يعيش أزمة نتيجة هذا الواقع، وكنت ألقيت في تلك الندوة محاضرة بعنوان: أزمة الإعلام العربي الرسمي، نشرت موجزة في جريدة الشرق الأوسط يوم الاثنين 18 نوفمبر.
وما كان بود المرء ــ احتراما للزملاء المسؤولين ــ أن يفصح عن كل ما يعتقده تجاه واقع الإعلام الرسمي اليوم في معظم الدول العربية، لكن الندوة كانت تقتضي الأمانة والمصارحة والموضوعية العلمية.
وما من شك في أن في إعلام اليوم الكثير من الإيجابيات التي تحتسب له مقارنة مع إعلام الأمس، وفي مقدمة ذلك الانفتاح النسبي وفي سرعة وصول الخبر والمعلومة وفي التقدم التقني وتوافر وسائل التواصل الاجتماعي التي اكتسحت المشهد، بل وأحرجت الإعلام التقليدي، وتتمثل إشكالية الإعلام الرسمي اليوم أنه لم يستطع التعايش مع المعطيات الجديدة التي يوفرها الإعلام الجديد.
الأمر الثاني أن بعض وسائل الإعلام اليوم أصبحت تميل إلى الصيغ البرامجية البسيطة الضعيفة من حيث الاحتراف، فاختفت من خارطتنا الإعلامية برامج الدراما والمنوعات، وصارت المقابلات تلو المقابلات من السمات السائدة، كما أن كثيرا من القنوات الإذاعية والتلفزيونية الرسمية ــ على الأخص ــ لم تطوع برامجها الإخبارية مع مستجدات الإعلام الجديد، وهكذا.
هناك من يرى أن تاريخ الإعلام السعودي؛ بداياته وأعلامه ورموزه لم يكتب بعد، ما رأيك؟
لعلي قلت من قبل إن الجهات الإعلامية الرسمية، وكذلك الجهات التعليمية الرسمية لم تسهم بما يكفي لكتابة تاريخ الإعلام السعودي، ولا أدري إلى ماذا وصل مشروع توثيق البرامج وحفظها وفهرستها الذي تعاقدت عليه وزارة الثقافة والإعلام مع شركة فرنسية، وأنتم تعلمون أن المكتبة الوطنية الإعلامية تخسر الآلاف من المقتنيات الثمينة القديمة التي لا تقدر بأثمان ولا تعوض.
أما ما كتب حتى الآن من تاريخ الإعلام السعودي، فهو على أهميته محدود الحجم ولم يواكب الزمن، وفي تقديري أننا بحاجة إلى جهد مؤسسي رسمي يتبنى المشروع بأكمله، كما يتطلب جهدا مشتركا تسهم فيه الحكومة، ممثلة بالوزارة، وتشارك فيه أقسام الإعلام والهيئات والمؤسسات الصحفية على النحو الذي تحدثت عنه في جواب السؤال الأول، يتساوى في ذلك تاريخ البدايات والتطور وكذلك الرموز والأعلام إلى غير ذلك من الأمور التي تتطلب التوثيق.
يلاحظ عدم ثقة المتلقين بوسائل الإعلام الوطنية من حيث وجود المعلومة وتوافر المصداقية.. هل أنت مع هذا الرأي؟.
قد تكون هذه الملحوظة صحيحة عند القليل من المواطنين في حالات معينة، لكن الأغلب أن المواطن لديه ثقة بوسائل إعلامه المحلية متى ما تعاملت معه بدرجة كافية من الذكاء والاحترام والشفافية، ولعلنا نتذكر مواقف معينة كانت فيها المعلومة المتصلة بأمور سياسية معينة أو بقضايا الإرهاب تقدم بوضوح وفورية، وكان المواطن يتقبلها، بل ويتبناها في مقابل ما تنشره وسائل إعلام أخرى.
كيف تقيمون كفاءة الإعلام السعودي ومهنيته بكل وسائله وقنواته؟
سامحك الله، إذ تخيلت ضيفك بالمقدرة والتأهيل الكافيين لإصدار حكم كهذا، خصوصا أن المجتمع بمختلف شرائحه شريك في مثل هذا التقرير، لكنني من جانبي ومع كل الاحترام والتقدير لجهود القائمين على الإعلام إدارة وكفايات مهنية، أشعر أن الإعلام السعودي يتواضع كثيرا أمام منزلة دولته ومكانة شعبها ومستوى موقعهما الحضاري والدولي.
ثمة من يرى أن مذيعي زمان كانوا أكثر كفاءة ومهنية من مذيعي اليوم، هل أنت مع هذا الرأي؟
لكل عصر ظروفه ومؤهلاته وكفاياته، لكن المسألة لا تقاس بهذه الطريقة والسهولة، ربما كان الأقدمون أكثر احترافا وموهبة، لكن المتأخرين أكثر جرأة وانفتاحا وسعة معلومات.
هل نحن بحاجة إلى استراتيجية إعلامية؟ وهل ما زالت السياسة الإعلامية في بلادنا تصنع بعيدا عن الواقع؟
لم يمج الوسط الإعلامي في تاريخه عبر أربعة عقود بمثل تكرار الحديث عن الاستراتيجيات الإعلامية ومواثيق الشرف والأخلاق ونحوها، والعبرة ليست أبدا في وضع استراتيجيات لا تطبق على أرض الواقع، أما السياسة الإعلامية فقد وضعت قبل أكثر من ثلاثين عاما، وكنت أحد من تشرف في الإسهام في وضعها، واسمح لي أن أهمس في أذنك أستاذ أحمد أنها كانت ولا تزال آخر ما يفكر فيه الإخوة زملاء المهنة، وعلى كل حال فهي تمثل خطوطا توجيهية وأخلاقية وسياسية وتربوية ومهنية عامة، ولا أعتقد أنها منذ صدورها شكلت سببا إيجابيا أو سلبيا مؤثرا في مسيرة الإعلام الوطني.
مع طفرة الثروة المعلوماتية، أصبحت هناك وسائل كثيرة للتواصل وبث المعلومة، هل ترى أن التشريعات ضمنت الحرية لهذه الوسائل الحديثة.. أم أننا نحتاج إلى تشريعات أخرى؟
أود أن أقول أولا إن المشهد الإعلامي بعد إلغاء المجلس الأعلى للإعلام قد فقد المظلة التشريعية التي كانت تحكم تنظيماته الجديدة أيا كانت، لأنه كان الجهة الفاصلة بين الجهة الآمرة والمنفذة، وكانت مشكلته ــ كما عبرت عن ذلك في محاضرة سابقة ــ أن بعض الإعلاميين حكموا عليه من خلال علاقته الإدارية الشكلية بمكتب رئيسه (وزير الداخلية ــ آنذاك ــ الأمير الراحل نايف ــ رحمه الله)، وإلا فإن المجلس كان في الواقع يفصل فيما يحال أو يرد إليه بمعيار مهني بحت، ولا أبالغ إذا قلت إنه كان كثيرا ما يقف إلى جانب المتظلم والشاكي، وأن رئيسه كان يأخذ بما تتوصل إليه اللجنة التحضيرية، وكان كل أعضائه علماء ومثقفين وإعلاميين وأدباء متميزين، منهم ــ على سبيل المثال ــ الشيخ محمد بن جبير، الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي، الأستاذ عبدالله بن خميس، والدكتور راشد المبارك، وهم قمم فاضلة متفتحة منصفة.
أما بالنسبة لسؤالكم، فإن هذا الأمر، وأقصد به التشريع المنظم للإعلام الجديد بكل شؤونه مع ضمان الحرية المعقولة له، هو بالضبط ما نحتاج إليه اليوم، وبما أن مجلس الإعلام قد ألغي منذ عشر سنوات كما هو معروف، فقد يكون من الأوفق أن تشترك في وضعه جهة محايدة من الإعلام والشورى والعدل وهيئة الخبراء بمشاركة رموز فكرية متفتحة ورزينة وواعية.