سؤال لا إجابة له ؟!

محمد الحربي

عندما غنت فيروز:
«باشتاق لك لا باقدر شوفك..
ولا باقدر إحكي..
واندهلك خلف الطرقات..
وخلف الشبابيك..
وجرب إني إنسى..
بيهرب النسيان...»..
جاءها الصدى من البدر:
«ليت الشوارع تجمع اثنين صدفه..
لا صار شباك المواعيد مجفي»..
هناك أشخاص تجمعنا بهم الحياة، فيشكلون وجداننا ويصبحون جزءا أصيلا من تكوين شخصياتنا ونجدهم في كل تفاصيل حياتنا..
ثم تأخذهم الحياة منا فجأة دون أن نعرف كيف؟ أو لماذا؟ أو حتى دون أن تسألنا إن كنا نريد لهم أن يرحلوا أو أن يبقوا؟ ولا تترك لنا أي خيار حيال أنفسنا بعدهم..
نبكي.. نحزن.. نشتاق.. يلوعنا الفراق.. نحاول النسيان أحيانا ولا ندرك إلا أننا نسينا حتى أن نحاول..
ويمضي الزمن.. بينما لم نكن فيه إلا إحدى محطاته.. ويذهب بعيدا، حيث لا تستوعب ذاكرته كل العابرين الذين مروا بنا أو الذين عبر بهم.. غير عابئ بنا أو بهم.. إلا أنهم يبقون أقوى من النسيان ومن قسوة الحياة التي أخذتهم رغما عنا وعنهم..
ومهما طالت سنوات الغياب فإنهم يعودون.. لأنهم لم يغيبوا منذ البداية.. وبقوا داخلنا رغما عن الغياب.. ونكتشف أننا كنا نكتبهم في الغياب كي لا نبقى وحيدين بعدهم..
وعندما يعودون بعد كل سنوات الغياب.. كأنما توقفت عقارب الزمن عند يوم الفراق كأن لم يغيبوا عنا أبدا.. وكأنما لم يكبروا ولم نكبر بعدهم يوما واحدا.. ملامحهم كما هي.. وملامحنا كما هي.. ربما ابيض بعض السواد على رؤوسنا.. لكننا لا نراه فيهم.. ولا يرونه فينا..
يعودون بعد كل سنوات الغياب.. ويجدون كل تفاصيلهم الصغيرة حية فينا لم تمت كما تركوها.. ونجد كل تفاصيلنا الصغيرة حية فيهم لم تمت كما تركناها.. صورهم.. ملامحهم.. هداياهم.. قصاصات رسائلهم التي تآكلت أطرافها.. كل الأشعار التي أحضرتهم يوما من الغياب.. وجوههم التي كانت تنعكس على مرايانا عندما نتأمل وجوهنا.. رائحة عطرهم على كفوفنا.. أطيافهم على الشبابيك وفي الشوارع والدور.. وكأنما علقهم الغياب على أهدابنا قبل الرحيل..
نعرف وقتها.. لماذا عادوا.. ونتيقن وقتها أنهم لم يغيبوا منذ البداية.. لكن قسوة الحياة تستمر في جلد أرواحنا بسياطها.. فلا تخبرنا لماذا غابوا؟!
ويبقى هذا هو السؤال المر الذي لا إجابة له.. ولا بلسم يمكنه أن يشفي وجعه الذي أرهق قلوبنا دونما رحمة..
ونستمر نبكي من الداخل.. ونحزن حتى في ضحكاتنا وابتساماتنا وأقنعة اللا حزن التي نرتديها لنوهم أنفسنا أن الحياة قد تستمر بكل بلادتها وجمودها وهامشيتنا فيها..
ويقتلنا الخوف من غياب آخر قد يقتل كل ما تبقى في أرواحنا من رجاء.