أسطورة تفخر بها البشرية
الاثنين / 13 / صفر / 1435 هـ الاثنين 16 ديسمبر 2013 19:13
عبدالله يحيى بخاري
يموت الأفذاذ والعظماء كغيرهم من البشر، وتبقى أفكارهم ومبادئهم وإنجازاتهم لأعوام وقرون طويلة، لتترك أثرها في أجيال المستقبل وتنير الطريق لمن يليهم، ليس فقط في بلادهم وإنما في جميع أرجاء المعمورة.
هكذا كان نيلسون مانديلا، الزعيم التاريخي لجنوب أفريقيا، الذي عشق الحرية، كافح ضد التمييز العنصري، واعتنق مبادئ إنسانية نبيلة لم يتخل عنها مهما كانت قسوة النظام الذي تصدى له، فدفع الثمن من حريته الشخصية في سبيل توفير الحرية للمظلومين والمقهورين من أبناء وطنه. تذكرنا قصته إلى حد كبير بقصة الزعيم الهندي الشهير غاندي.
ولد ذلك الزعيم العالمي في 18 يوليو 1918م بجنوب أفريقيا، وتوفي فيها في 5 ديسمبر 2013م عن خمسة وتسعين عاما قضاها في كفاح ونضال وحركة دائمة، دون أن يفقد هدوء نفسيته، والبسمة الجميلة التي اشتهر بها في كل المواقف. درس مانديلا القانون في جامعات جنوب أفريقيا، ومارس عمله كمحام في بلاده، حيث اعتقل عدة مرات أثناء عمله بسبب نشاطه السياسي ومحاربته للتفرقة العنصرية التي كانت تمارس في بلاده على أيدي حكامه من الأصول الأوروبية. ثم جاء اعتقاله النهائي في عام 1962م حيث حكم عليه بالسجن المؤبد، إلى أن تم الإفراج عنه في عام 1990م نتيجة التدخلات الدولية، بعد أن قضى ظلما أكثر من سبعة وعشرين عاما في المعتقل، أي أكثر من ربع عمره.
ولم تمض أربعة أعوام على خروجه من المعتقل حتى انتخب جماهيريا كأول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا، حيث تولى ذلك المنصب من عام 1994م وحتى عام 1999م حين تخلى طواعية عن منصبه للتفرغ لنشر مبادئه الإنسانية كسفير سلام وتسامح عالمي. وقد كتب مذكراته وقصة حياته في كتاب رائع نشر عام 1995م تحت مسمى «الطريق إلى الحرية»، وكان قد بدأها وهو في المعتقل، ولم يعطها اسما رنانا مخيفا مثل الكتاب الأخضر، أو البحث عن الذات، أو كفاحي أو ما شابه. ولكنه خلال الأعوام القليلة التي قضاها كرئيس، وقبل خروجه باختياره من كرسي الحكم، كان قد استطاع أن يرسخ توجهات حكومته في ثلاثة أمور هامة حينذاك، أولها القضاء على كل مظاهر وأنظمة التفرقة العنصرية في بلاده، وثانيها محاربة الفقر، وثالثها تحقيق المساواة بين المواطنين، إلى جانب وضع الدستور الجديد لبلاده.
وبالطبع انهالت الأوسمة ونياشين التكريم على مانديلا، وهو الذي لم يكن يسعى إليها أو يهتم بها، حتى بلغت أكثر من مائتين وخمسين وساما وتكريما، ومنها جائزة نوبل للسلام عام 1993م، وميدالية الحرية من رئيس الولايات المتحدة، ونيشان لينين من الاتحاد السوفيتي السابق. واستحق مانديلا اللقب الذي أطلق عليه، وهو «والد الأمة». بقي مانديلا بطبعه زاهدا في النفوذ والسلطة والحكم والثروة.
أسعدني الحظ بمقابلة ذلك الرجل العملاق مرة واحدة في حياتي. فقد دعاني سمو الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي، وكان حينذاك يترأس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، إلى مأدبة عشاء في فندق شيراتون بجدة، ضمن عدد محدود من المدعوين على شرف نيلسون مانديلا، بعد خروجه من مقعد الحكم.
وبالرغم من قامة مانديلا المديدة، وشخصيته المؤثرة، إلا أنك تشعر وأنت تمسك بيده الضخمة بحرارة ومودة حميمة، وكأنك تعرف الرجل منذ سنوات طوال. ثم تنظر إلى وجهه الباسم السمح، ونظرته الودودة، وعينيه الضيقتين اللتين يشع منهما هدوء وسكينة وكأنه لا يعيش في هذا العالم المتلاحم الصاخب وإنما في عالم آخر خاص به، فتود لو أنك تستطيع أن تحضنه وتقبل وجناته ورأسه ذا الشعر الأبيض. وألقى سمو الأمير عبدالله بن فيصل كلمة ترحيب قصيرة، فرد عليه مانديلا بكلمة شكر دافئة، وأهدى للأمير شيئا من إنتاج بلاده الزراعي، وهي بطيخة كبيرة ملفوفة بعناية في قصدير، قائلا لنا بأن أجمل شيء في بلاده هو هذا النوع من البطيخ النادر، وهو ما يستطيع أن يقدمه كهدية متواضعة من إنتاج «الأرض» في بلاده.
وبعد العشاء الذي طاب للجميع، طلب مانديلا من سمو الأمير عبدالله بن فيصل أن يسمح له بمقابلة الطباخ ومساعديه الذين اجتهدوا في تقديم ذلك الطعام الشهي لنا. فلبى الأمير طلبه، وكان المنظر جميلا ونحن نشاهد الزعيم العالمي الشهير يصافح بكل تواضع الطباخ ومعاونيه، ثم يقف في وسطهم ليأخذ صورة معهم وهم يحيطون به.
الرجل كان أسطورة في كل شيء، وخاصة في تواضعه وسمو أخلاقه ونقاء قلبه ونفسيته. تفخر البشرية بأنها أنجبت رجالا مثل مانديلا، فقد امتد نبل وعظمة مبادئه وتأثيرها المباشر وغير المباشر إلى خارج حدود بلاده، إلى جميع أطراف الكرة الأرضية.
لم يصنع التاريخ نيلسون مانديلا، بل هو الذي صنع التاريخ، في هدوء وصبر وتسامح، ودون ضجيج، ثم غادر.. أيضا دون ضجيج.
هكذا كان نيلسون مانديلا، الزعيم التاريخي لجنوب أفريقيا، الذي عشق الحرية، كافح ضد التمييز العنصري، واعتنق مبادئ إنسانية نبيلة لم يتخل عنها مهما كانت قسوة النظام الذي تصدى له، فدفع الثمن من حريته الشخصية في سبيل توفير الحرية للمظلومين والمقهورين من أبناء وطنه. تذكرنا قصته إلى حد كبير بقصة الزعيم الهندي الشهير غاندي.
ولد ذلك الزعيم العالمي في 18 يوليو 1918م بجنوب أفريقيا، وتوفي فيها في 5 ديسمبر 2013م عن خمسة وتسعين عاما قضاها في كفاح ونضال وحركة دائمة، دون أن يفقد هدوء نفسيته، والبسمة الجميلة التي اشتهر بها في كل المواقف. درس مانديلا القانون في جامعات جنوب أفريقيا، ومارس عمله كمحام في بلاده، حيث اعتقل عدة مرات أثناء عمله بسبب نشاطه السياسي ومحاربته للتفرقة العنصرية التي كانت تمارس في بلاده على أيدي حكامه من الأصول الأوروبية. ثم جاء اعتقاله النهائي في عام 1962م حيث حكم عليه بالسجن المؤبد، إلى أن تم الإفراج عنه في عام 1990م نتيجة التدخلات الدولية، بعد أن قضى ظلما أكثر من سبعة وعشرين عاما في المعتقل، أي أكثر من ربع عمره.
ولم تمض أربعة أعوام على خروجه من المعتقل حتى انتخب جماهيريا كأول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا، حيث تولى ذلك المنصب من عام 1994م وحتى عام 1999م حين تخلى طواعية عن منصبه للتفرغ لنشر مبادئه الإنسانية كسفير سلام وتسامح عالمي. وقد كتب مذكراته وقصة حياته في كتاب رائع نشر عام 1995م تحت مسمى «الطريق إلى الحرية»، وكان قد بدأها وهو في المعتقل، ولم يعطها اسما رنانا مخيفا مثل الكتاب الأخضر، أو البحث عن الذات، أو كفاحي أو ما شابه. ولكنه خلال الأعوام القليلة التي قضاها كرئيس، وقبل خروجه باختياره من كرسي الحكم، كان قد استطاع أن يرسخ توجهات حكومته في ثلاثة أمور هامة حينذاك، أولها القضاء على كل مظاهر وأنظمة التفرقة العنصرية في بلاده، وثانيها محاربة الفقر، وثالثها تحقيق المساواة بين المواطنين، إلى جانب وضع الدستور الجديد لبلاده.
وبالطبع انهالت الأوسمة ونياشين التكريم على مانديلا، وهو الذي لم يكن يسعى إليها أو يهتم بها، حتى بلغت أكثر من مائتين وخمسين وساما وتكريما، ومنها جائزة نوبل للسلام عام 1993م، وميدالية الحرية من رئيس الولايات المتحدة، ونيشان لينين من الاتحاد السوفيتي السابق. واستحق مانديلا اللقب الذي أطلق عليه، وهو «والد الأمة». بقي مانديلا بطبعه زاهدا في النفوذ والسلطة والحكم والثروة.
أسعدني الحظ بمقابلة ذلك الرجل العملاق مرة واحدة في حياتي. فقد دعاني سمو الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي، وكان حينذاك يترأس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، إلى مأدبة عشاء في فندق شيراتون بجدة، ضمن عدد محدود من المدعوين على شرف نيلسون مانديلا، بعد خروجه من مقعد الحكم.
وبالرغم من قامة مانديلا المديدة، وشخصيته المؤثرة، إلا أنك تشعر وأنت تمسك بيده الضخمة بحرارة ومودة حميمة، وكأنك تعرف الرجل منذ سنوات طوال. ثم تنظر إلى وجهه الباسم السمح، ونظرته الودودة، وعينيه الضيقتين اللتين يشع منهما هدوء وسكينة وكأنه لا يعيش في هذا العالم المتلاحم الصاخب وإنما في عالم آخر خاص به، فتود لو أنك تستطيع أن تحضنه وتقبل وجناته ورأسه ذا الشعر الأبيض. وألقى سمو الأمير عبدالله بن فيصل كلمة ترحيب قصيرة، فرد عليه مانديلا بكلمة شكر دافئة، وأهدى للأمير شيئا من إنتاج بلاده الزراعي، وهي بطيخة كبيرة ملفوفة بعناية في قصدير، قائلا لنا بأن أجمل شيء في بلاده هو هذا النوع من البطيخ النادر، وهو ما يستطيع أن يقدمه كهدية متواضعة من إنتاج «الأرض» في بلاده.
وبعد العشاء الذي طاب للجميع، طلب مانديلا من سمو الأمير عبدالله بن فيصل أن يسمح له بمقابلة الطباخ ومساعديه الذين اجتهدوا في تقديم ذلك الطعام الشهي لنا. فلبى الأمير طلبه، وكان المنظر جميلا ونحن نشاهد الزعيم العالمي الشهير يصافح بكل تواضع الطباخ ومعاونيه، ثم يقف في وسطهم ليأخذ صورة معهم وهم يحيطون به.
الرجل كان أسطورة في كل شيء، وخاصة في تواضعه وسمو أخلاقه ونقاء قلبه ونفسيته. تفخر البشرية بأنها أنجبت رجالا مثل مانديلا، فقد امتد نبل وعظمة مبادئه وتأثيرها المباشر وغير المباشر إلى خارج حدود بلاده، إلى جميع أطراف الكرة الأرضية.
لم يصنع التاريخ نيلسون مانديلا، بل هو الذي صنع التاريخ، في هدوء وصبر وتسامح، ودون ضجيج، ثم غادر.. أيضا دون ضجيج.