«نسخ» وليس «نفي»

«نسخ» وليس «نفي»

إبراهيم عبدالمجيد

تحدثت في الأسبوع الماضي عن التقسيم المدرسي للأجيال وشيوعه في عالمنا العربي وبصفة خاصة مصر هذا التقسيم الذي قسم الأجيال إلى أحقاب من السنوات قدر كل منها عشر سنوات، ولم يعتمد التقسيم الطبيعي للأجيال باعتباره قائما على الاختلاف في البنية الشكلية للعمل الفني.. لقد جمع التقسيم العمري بين كتاب قد يكونوا، وهم كذلك فعلا، متفاوتين في القيمة الأدبية ومن ثم ساوى بين فقير أو متوسط الموهبة والقيمة وبين الأفضل، بينما القسمة بواقع تغير الأشكال الأدبية يمايز بين المواهب ولا أريد أن أقول الكتاب وغير الكتاب. تبقى ظاهرة أخرى هي أن الفهم الشائع من وراء مصطلح الأجيال يتسبب في النظر بقصور إلى الأجيال السابقة.. وأضرب مثالا واضحا من مصر أيضا، فحين قيل جيل الستينات تم على الفور استبعاد حركات التجديد السابقة عليه، والتي توضح النظرة العميقة إلى الإنتاج الأدبي في الستينات وحتى الآن إنها شكليا كانت ولا زالت امتدادا وإن توسع للأجيال السابقة.. نجيب محفوظ مثلا في روايته اللص والكلاب التي صدرت عام 61 كان سباقا في استخدام لغة قص مفارقة لأعماله السابقة إلى حد كبير فهنا لغة شعرية الدلالة قصيرة الجمل شديدة التكثيف خالية من المحسنات البديعية التقليدية وفعل ذلك فيما تلتها من روايات مثل الشحاذ والسمان والخريف.. هذه كلها إنجازات في الشكل اشترك فيها معه جيل الستينات لكنها صارت إنجازا لهذا الجيل.
كذلك الأمر مع يحيى حقي الذي خلص القصص القصيرة من كل الزوائد اللغوية، وكذلك الأمر في يوسف إدريس الذي اعتمد اللهجة العامية شديدة الإيجاز والدلالة وهذه قدرة مذهلة لأنه ليس في العامية إمكانات الفصحى على التنوع في الصياغة ولا إيجازها إذا أراد الكاتب لأن في العامية صياغات كاملة ينطقها اللسان كما تعود.
وكما فعل يحيى حقي في القصة القصيرة فعل يوسف الشاروني وبدرالديب وغيرهما ممن سبق الستينات، لكن بدا أن ذلك كله بدأ مع الستينات والستينات فقط.
وإذا تكرم ناقد وذكر هذه الأعمال السابقة يقول إنها كانت بدايات أو إرهاصات بينما هي أعمال كاملة وكبيرة..
طبعا الأمر نفسه ينطبق على كاتب كبير مثل محمد حافظ رجب الذي سبق الستينات أيضا وكذلك صيري موسى وسليمان فيلاض وأبو المعاطي أبو النجا وهكذا..
وبعيدا عن ذلك فإن من عيوب القسمة في بلادنا وهي ليست في غيرها أننا نعتبر كل جيل بداية تنفي ما قبله.. والحقيقة أنه في الآداب والفنون لايوجد «نفي» ولكن يوجد «نسخ» بمعنى أنه لايوجد حركة فنية أو أدبية منقطعة نهائيا عما قبلها.. هناك دائما من القديم شيء أو أشياء تتسلل إلى الجديد والأهم من ذلك أن كل جيل أو حركة أدبية أو فنية وهي تستخدم طرائقها الجديدة تتحد مع سابقتها أو التالية عليها في أنها تصيغ عملا فنيا ممتعا على مر السنين، ومن ثم أنت تقرأ باستمتاع رواية مثل ديفيد كوبرفيلد لتشاارلز ديكينز وهي رواية واقعية كما تقرأ باستمتاع رواية مثل مرتفعات ويذرينج لاميلي برونتي وهي رواية رومانتيكية أو نافخ البوق وتس سليلة الدربرفيل لتوماس هاردي أو «أوليس» وهي رواية مفارقة تماما للواقعية وغيرها وأقرب إلى أن تكون وغيرها من روايات تيار الشعور رواية نفسية..
الأمر نفسه في أي بلد عربي وفي مصر.. طيب ما الذي يجعلك تقرأ كل المذاهب الأدبية بنفس المتعة رغم اختلاف طرائقها في الكتابة.. ببساطة الصدق الفني فيها وقوة التشكيل وكونها كلها في النهاية صياغة مجازية وليست حقيقية للعالم ومن ثم تدخل بك إلى آفاق أرحب مما هو حولك سواء بالمتعة أو بالمستويات التي قد تتعدد في تفسير العمل الواحد.. إنها بهذا المعنى تتجاوز العصور كلها.. حتى الروايات الحقيقية من فضلك التي ظهرت في عصور شمولية كما حدث في الاتحاد السوفيتي تتساوي في قيمتها أعمال مثل أعمال جوركي رائد الواقعية الاشتراكية وأعمال شولوخوف البعيد عن ذلك أو أعمال باسترناك البعيد أكثر أو أعمال سولجنستين الذي بعد أكثر جدا، وكلها وجوه متعددة لعالم واحد أكبر مما حول القارئ.. كما تقرأ في سوريا حنا مينا وتقرأ خالد خليفة أو شهلا العجيلي كما تقرأ في السعودية أعمال تركي الحمد أو عبده خال أو رجاء عالم أو يوسف المحيميد حتى الأحدث مثل علوان السهيمي وطبعا لن أطوف بالبلاد العربة بلدا بلدا لأن المساحة قصيرة ولأن النقاد أقدر مني على ذلك..
أشعر أحيانا في المفارقة بين الأجيال أن فيها نوعا من الانتقام من الأجيال السابقة وخاصة في مصر. وليس فيها نوع من التواصل الحقيقي الذي هو موجود رغما عنا، الأمر نفسه في الفنون التشكيلية فلن تنفي الحركة التأثيرية ما قبلها ولا نفتها التكعيبية ولا السريالية، وهكذا.
كذلك السينما لم تنف الأعمال الحديثة التي يلعب فيها المونتاج دورا أكبر وبالذات في استخدام الفلاش باك، الأعمال القديمة التقليدية فأنت تتفرج علي صلاح أبو سيف بنفس المتعة التي تتفرج بها علي يوسف شاهين. بل ربما كنت تستمتع أكثر بصلاح أبو سيف لأن الاستغراق عند شاهين في إمكانات المونتاج قد يشتت المشاهد الذي جعلك تحب الفيلم مهما كان موضوعه أشياء كثيرة على رأسها التصوير واستخدام اللقطات المتنوعة للايحاء بالمعنى الغائب الذي لا يجب أن يقال كلاما مباشرا بقدر الإمكان وغيرها من الديكور والألوان والحوار إلى آخره ..
في النهاية أنت أمام فيلم كبير وعظيم سواء كنت تتفرج على فيلم كلاسيكي مثل ذهب مع الريح أو فيلم حداثي مثل المريض الإنجليزي.. وفي كل عصر هناك أفلام عظيمة وأفلام متوسطة وأفلام ضعيفة لاختلاف المواهب ولم يجمع النقاد في حركة فنية واحدة بين الموهوبين وغير الموهوبين لأن الأصل عندهم هو التشكيل والعناصر الجمالية وليس أعمار الكتاب أو الفنانين أو المخرجين، وفي كل الأحوال لا تنفي حركة أو جماعة أو جيل ما قبلها إلا في بلادنا !