الأدب وكثيرو الأدب

أحلام محمد علاقي

قبل أيام استمعت بالصدفة لحديث سيدتين عربيتين متقدمتين في السن نوعا ما، رأيتهما بالصدفة في مكان عام، لفت نظري حديثهما ليس لأن موضوعه شيق أو لأنه ينقل أي خبر لم أعرفه، بل للأسلوب الراقي المهذب الذي تميز به والذي افتقدناه ولم نعد نسمعه للأسف منذ زمن طويل.
بدأ الحديث بالسلام والكلمات المنمقة المهذبة والمعبرة عن السؤال عن الحال والحمد والثناء على الله ونعمته وبعد ديباجة مليئة بما سموه أهل الأدب الـ«ديكوروم» عالٍ المستو. تطرق الحديث للتفاصيل وبنفس التهذيب والتبسم واللباقة. ورغم أنني كنت قريبة منهما نسبيا إلا أن صوتهما كان منخفضا مناسبا لحديث بين اثنين.
تأثرت كثيرا بأسلوب الحوار الراقي الذي تتميز به أجيالنا العربية القديمة اجمالا. فمن يعيش في الغرب مثلا وخاصة في أوروبا الغربية يرى الاختصار والمباشرة في الحوار لدرجة ربما تكون غير إنسانية أحيانا. أما بين الأجيال الجديدة العربية فالبعض للأسف -وليس الكل طبعا- يفتقد هذا التهذيب في الحوار وفي التعامل ولا أدري لماذا.
ذكرني هذا الموقف بموقف آخر حدث لي شخصيا قبل فترة. فبينما كنت أشتري بعض الهدايا من متجر شهير لملابس الأطفال، أعلنت المايكروفونات وقت الصلاة وأطفئت الأضواء، وفجأة وبينما أنا واقفة في مكاني في الطابور في الظلام، إذ بعشرات النساء يركضن تجاهي كالتسونامي ليتدافعن على الحساب، وبلمح البصر تحول الطابور الصغير الذي كنت في مقدمته إلى نصف دائرة مليئة بالأصوات الغاضبة والدفع بالمرافق وسلال المشتروات والدهس بالأحذية ذات الكعوب العالية. أخذت أحاول أن أثبت في مكاني الجديد حينما فقدت الأمل في استعادة دوري في الطابور الذي بقدرة قادر أصبحت في مؤخرته! ولكن التدافع استمر. فبعض الناس لا يحترمون «الهاله» أو الـ«ببل» أو المسافة التي يحتاجها الإنسان حوله من الفراغ حتى يشعر بالراحة وعدم غزو الخصوصية! سلمت أمري لله وانتظرت، ولمت نفسي على الشراء في وقت التنزيلات التي تجعل البعض يتبنى سيكولوجية التدافع والهجوم.
المهم أعانني الله على الانتظار وأخيرا حينما انتهت السيدة التي كانت أمامي من مشترواتها الكثيرة ووضعت أنا سلتي الهزيلة على الكاونتر وأمسك بها الموظف ليبدأ الحساب، وإذ بسيدة تأتي من الخلف وتصرخ بأعلى صوت لتقول بأنها «مع السيدة التي سبقتني وتريد أن تحاسب الآن -حالاً!»
للعلم -هذه السيدة لم تكن في الطابور- أو حتى قريبة منه، بل كانت تجمع في السلع لآخر لحظة. وأجل كانت السيدة التي أمامي قريبتها أو صديقتها كما هو واضح، ولكن هذا لا يؤهلها لتخطي الطابور، أتت هذه السيدة بصراخها محملة بسلال عديدة تطفح بما فيها وقامت بدفع النساء اللواتي كن في الخلف للوصول إلى الأمام بلا أدنى حياء، وأخذت بعدها تصرخ على الموظف لتثبت أنه دورها. أشفقت على ذاك الموظف فعلا، فمن الواضح أنه صغير في السن حديث خبرة بمهنة البيع ولا يريد الدخول في مناوشات مع النساء لاعتبارات اجتماعية ومهنية، وكان الذعر باديا عليه بطريقة مؤسفة، حاول الموظف الحديث فصرخت السيدة عليه. وأخيرا وحينما نفد صبري قلت بكل هدوء «الطابور يبدأ من هناك، وأشرت بيدي إلى الخلف!» همهمت بعض النسوة اللواتي بالخلف موافقات، فما كان من السيدة إلا أن تستشيط غضبا ويعلم الله أنني لن أبالغ في وصف ما تبع ذلك من «كلايمكس» أو عقدة للحدث:
نزعت السيدة سلتي من يد الموظف بكل حنق وقامت بنثر محتويات السلة ورميها في الهواء! ورافق ذلك التلفظ بما لا يليق أن يكتب في أي نوع من المطبوعات! لن أصف لكم صدمتي حينما رأيت محتويات سلتي تطير محلقة وتتناثر يمينا وشمالا ثم تهبط على الأرض مع «باك جراوند» من الشتائم! كانت لحظة غريبة عجيبة خيالية سريالية ماجيك رياليزميه! بهت الجميع. صدمت أنا. صعق الموظف. وساد الصمت. نظر إلي الموظف واعتذر المسكين بكلمة واحدة: «معليش».
لا أعرف ما حدث بعدها فقد قررت ترك المتجر بما فيه ومن فيه. غضبت في البداية لعدم ردي، ولكنني سرعان ما هنأت نفسي على عدم خفض مستوى أخلاقياتي للتدني المناسب لبعض الأشخاص. كفى الله المؤمنين شر القتال ورحم الله التهذيب وأهله.