لماذا نخاف من الليبرالية؟!

حسن النعمي

في أدبيات السياسة والفكر مذاهب شتى، منها اليمين واليسار، ومنها البرغماتي والديموقراطي، ومنها الثيوقراطي والشمولي، ومنها الليبرالي والمحافظ. غير أن أشدها نقدا ومساءلة النهج الليبرالي لأسباب قد تكون موضوعية، وقد تكون متجنية من أجل إبقاء أنظمة قيمية أخرى بديلا عن كل ما يحرر الإنسان من هيمنة بغيضة.
امتازت الليبرالية بمسارين، والامتياز هنا لا يعني التفوق من عدمه، بل يعني إثبات الوصف دون المنافحة ضده بطريقة استعلائية. المساران هما: الفكر والممارسة، ففي جانب الفكر عززت استقلال الفرد وحريته وحقه في الاختيار ومسؤوليته عن أفعاله. أما الممارسة فتظهر في النهج الديمقراطي في إبداء الرأي السياسي دون معاقبة، وممارسة حق الانتخاب دون مغالطة، وفرصة الوصول لصانع القرار دون عوائق. هذه الممارسات لا تعفي الفرد من المسؤولية، فهناك قضاء يحاسب الفرد على تجاوزاته، لكن له الحق في المرافعة والمدافعة في جو قانوني واضح المعالم. هذه الصيغ تصنع من الفرد حرا مسؤولا ليس عن نفسه، بل عن مجتمعه كذلك، لأن مسؤوليته ليست إلا تعبيرا عن حقه داخل سياق المجتمع.
ولعل أكثر المبادئ حراجة هو حقه في الاختيار إذ تصطدم غالبا ببنى اجتماعية جامدة لها قوالبها الجاهزة التي يضيق الفرد بها ولا يستطيع التكيف معها، وهي منظومة قيمية شاملة نطلق عليها العادات والتقاليد. فهي منظومة ضد الابتكار، وضد التميز، وضد الاختيار الخارج عن هذه المنظومة التي وافقت المسارات السياسية المحافظة التي تتشبث بصيغ التراتبية الهرمية، قاعدة عريضة ورأس مدبب.
الليبرالية في نظر خصومها منهج انفلات، إذ تمكن الفرد من حرية مطلقة دون اعتبارات لمرجعياته الأخرى. وفي هذا النقد مغالطة تكمن في عدم التوقف أمام المسؤولية الاجتماعية للأفراد، إذ تنتهي حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين، لكن في المقابل حريته مقدسة فلا يحق لأحد انتهاكها إلا بمسوغ قضائي قابل للمراجعة كذلك. الفرد حر في الاختيار لكنه مسؤول، الفرد كائن مستقل، لكنه استقلاليته لا تلغي اجتماعيته. ولعل تاريخ الانتهاكات الطويل جعل من مبدأ حرية الفرد أمرا حيويا في الفكر الليبرالي.
في سياق مجتمعنا تعاني الليبرالية من موقف مضاد بدعوى مناهضتها للإسلام، والحقيقة أنها تناهض أي فكر لا يحترم إرادة الإنسان، وما أحسب الإسلام إلا قد احترم الإنسان، وجعله مسؤولا عن أفعاله، وحسابه لا ينقص، بل يزيد اقتصاصا لحقوق الآخرين التي اعتدى عليها في حياته.
هل الليبرالية ضد الإسلام؟ سؤال يجب طرحه في ضوء القول بالكفرية لكل من يرى في اللبرالية منهجا ينتصر للأفراد على حساب المنظومات القيمية المستبدة. الليبرالية ليست دينا حتى يكفر من يعتنقه، بل رؤية للحياة من زاوية الفرد ومسؤولياته.
ليست الليبرالية دائما على حق، لكن فيها مضامين مقبولة، وتوجيهات سلوكية مميزة، ولا ضير أن نتقوى بما يعزز حريتنا، وخاصة أن لغة العالم هي لغة العلم والثورة الصناعية وتحرير الإنسان من الاستبداد، فلماذا ننفق وقتا طويلا في التنديد بها دون أن نقرأ فيها ما يناسبنا. الليبرالية انتجت منظومة قيمية نعاديها، لكننا نتغذى على أدبيتها ومنتجاتها ونمارس توجيهاتها الاقتصادية دون أدنى مقاومة. وفي الغالب، فإن من يعاديها هو أكبر من يدين بها، لكن تنديده في الغالب يأتي ضمن الاستعداء لكل ما هو مختلف.
الإسلام في أصله ثورة على الاستبداد، ثورة على مصادرة حقوق الأفراد لصالح الجماعات المتنفذة، ثورة على استبداد القبيلة، وثورة حتى على المذهبيات والطائفيات التي تلغي الأفراد وتلغي حريتهم في الاختيار. ففي نظر الفكر الشمولي أنت جزء من كل، ولا تستطيع أن تختار أن تكون مستقلا، أنت سني فلا يجب أن تقبل شيعياً، وأنت شيعي فلا بد أن تعادي سنيا. هذا الفكر الإنعزالي يكرس الفرقة ويحمل الفرد أثقال التبعية التي تصنع منه ذليلا ومنافقا في أغلب الأحوال.
إن لم ترق لنا الليبرالية فلندعها جانبا، فلا حاجة لنا بها طالما أن مبادئ الإسلام أعم وأشمل، لكن مشكلتنا مع الإسلام أننا نقول به ولا نعمل به في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، بل نحن أقرب للفكر القبلي الذي يأخذ من الإسلام ما يناسبه لا ما هو أصل وثابت فيه. أتحفظ كثيرا أمام وضع الليبرالية في مقابل الإسلام، الإسلام أكبر من كل شيء، لكن هذا لا يعني عدم النظر لتجارب الآخرين في الفكر والسياسة والاقتصاد طالما كان فيها فائدة ترتجى.