ثقافة الاستهلاك

حسن النعمي

في عصر ما قبل الطفرة الاقتصادية، وتحديدا قبل منتصف السبعينات الميلادية، عاش المجتمع ثقافة متوازنة بين الإنتاج والاستهلاك، ثقافة يمكن تسميتها ثقافة حد الكفاية. فمعظم الأنشطة الزراعية وأعمال البناء وأعمال الحرف اليدوية وغيرها، كان للمواطنين نصيب فيها، وخصوصا في القرى التي لم تكن تعرف بطالة أبنائها، إذ معظمهم كان يشتغل بالزراعة التي تعطيهم معظم ما يحتاجون للحياة. ويعزز هذا الموقف الاستهلاكي المتوازن مع مستوى الإنتاج تقارب الطبقات الاجتماعية في المستوى الاقتصادي، وإذا كان هناك من تفاوت فهو عند حدوده الدنيا.
في زمن الطفرة، ومع تغير المعطيات ودخول المجتمع في ثقافة الاستهلاك دون الإنتاج، انتقل المجتمع من ثقافة الكفاية إلى ثقافة الطفرة في كل شيء. فثقافة الكفاية، التي تقوم على امتلاك وسائل الإنتاج ومواءمة أنماط الاستهلاك وفقا لطبيعة الإنتاج، استبدلت بثقافة الطفرة التي لا تحسن الإنتاج، بل تندفع نحو الاستهلاك دون النظر في مآلات هذه النزعة المفرطة.
نشوء ثقافة الطفرة الاستهلاكية لم يكن متدرجا، بل كان دراماتيكيا متسارعا أنتج بنى اجتماعية مفككة، وثقافة استهلاكية غير منتجة. وهنا نصرخ هناك بطالة، هناك ضعف في الإنتاجية، ورغم معرفة صناع القرار والاقتصاديين بهذه الورطة التي لا حل لها إلا بمعادلة الإنتاج مع الاستهلاك على الأقل، إن لم يتفوق الاستهلاك على الإنتاج.
كيف يكون إنتاجنا أعلى من استهلاكنا؟ سؤال صعب ربما لم نسأله من قبل، وإن سألناه، فلم نكن جادين في مقاربة إجابته يوما ما. الهدف دائما كان البحث عن وظائف للعاطلين عن العمل دون أن يكون هذا العمل مؤثرا في البنية الاقتصادية. بمعنى أن معظم الوظائف ليست نوعية، بل وظائف إحلال بائسة لا تؤثر في مسيرة الإنتاج.
لا سبيل للجم حمى الاستهلاك في مجتمعنا، لكن بيدنا أن نخلق بيئة إنتاج مؤثرة تحقق التوازن بين النزعة المفرطة في الاستهلاك ومستوى الإنتاج. والبدء في مشروع لتهيئة بيئة مشجعة على الإنتاج. للإنتاج أصول تغافلنا عنها، أولها التعليم الذي يؤهل ويدرب بطريقة صحيحة حتى لو أدى الأمر للابتعاث من أجل تعلم مهن بعينها، إذا لم يكن لدينا قناعة في تعليمنا الفني.
الراصد لتحولات المجتمع في السعودية يدرك أزمة تفشي ثقافة الاستهلاك دون الإنتاج. وهذا أمر جد خطير في مجتمع يتشكل على أرضية واسعة الثراء. وهو ثراء يتحول إلى نقمة إذا لم نحسن ابتكار إنتاج ذي فاعلية تحقق قدرة وكفاية بتوجيه وسائل الإنتاج الوجهة التي تغني عن الاستهلاك المجرد.
في مجتمع نفطي بامتياز، يمكن استثمار صناعة النفط لتصبح الوجهة الاقتصادية الأولى لأبنائنا عبر التدريب والتعليم بتوسع يسمح بأن تكون الصفة الغالبة على إنتاجنا. الصناعات النفطية لم تعد استخراج الزيت فقط، بل تحولت إلى صناعة تدخل حتى في إنتاج العطور والملابس. أين نحن من هذه الصناعات التي تحقق النزعة الإنتاجية؟
لو كان هذا النفط في بلد آخر لتحول معظم أبناء البلاد لصناعة النفط، فهو المورد الاقتصادي الوحيد للبلاد، وهو مورد يؤثر في العالم فكيف لا يؤثر فينا؟! معظم نفطنا يذهب خاما وتستفيد منه دول في بناء اقتصادياتها المتجددة. هل الضعف في خططنا الاستراتيجية الخمسية، أم في إجراءات التنفيذ. للإنصاف، خططنا طموحة وواعية بالمخاطر، لكن المشكلة في إجراءات التنفيذ، والاستسلام لمداخيل النفط العالية ومستقبل البلاد الاقتصادي.
مخاطر انصراف العالم عن نفطنا لم تعد مجرد تخمينات، بل تحولت إلى حقائق من خلال استكشافات النفط الصخري والبدائل الأخرى للطاقة. العالم اتخذ إنتاج الطاقة وسيلة، وليس غاية، وسيلة لبناء اقتصاديات كبرى وصناعات ثقيلة تتطور ولا تتراجع.
النفط، أو البقرة الحلوب التي رضعنا حليبها لم تعد قادرة على الوفاء بالتزامات الاستهلاك المفرطة، معدلات عالية من الإنفاق ضاع بعضها في أقنية الفساد، وبعضها الآخر في الإنفاق على وظائف من أجل الاستهلاك لا الإنتاج. فعلى سبيل المثال، وظائف التعليم من معلمين وإداريين هي الأعلى بين موظفي الدولة، ومع ذلك هذه الوظائف للاستهلاك لا للإنتاج، بدليل مخرجات التعليم التي لا تسطيع أن تسهم في مسيرة الإنتاج بأي قدر ممكن، فتبحث ــ بدورها ــ عن مجرد وظائف أكل عيش، وعيشنا يصنعه غيرنا، ونفطنا يستثمره غيرنا، ومركباتنا ينتجها غيرنا، مستلزماتنا اليومية يجد في ابتكارها غيرنا. لحظة لقد تفوقنا في أمر مهم، وهو مصانع التعبئة التي تنتشر في كل مكان، لكن ــ للأسف ــ حتى هذه موادها الخام ومن يقوم عليها ليس إلا غيرنا!!.