العرب وفكرة الخلاص

حسن النعمي

في رواية ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ يظهر الفتوة مخلصا للجماهير من الظلم ومحققا لها العدل النسبي. وكلما زاد الظلم والقهر والاستبداد تعلق الناس أكثر بظهور المخلص. وهم لا يفعلون شئيا سوى انتظار من يخلصهم. وتنتهي الرواية وقد مر المجتمع بتجربة الخلاص عشر مرات، إذ كشفت آخر تجربة عن عبث انتظار المخلص دون أن يكون هناك فعل جمعي. وهو ما تنبه له المخرج علي بدر خان في فيلم الجوع، حيث أكد أن الجماهير هي من تصنع خلاصها لا الفرد مهما بلغت قوة الفرد المخلص أو جاذبيته أو قدرته على نصرة الحق، فلا بد من وجود من يناصر الحق لا مجرد من يستفيد منه فقط.
في تاريخنا العربي حضرت زعامة الفرد بوصفها جزءا من ذهنية استحالة صلاح المجتمع دون قوة نافذة من الأعلى تحقق الانتصار وتنشر العدل بين الناس. فكلما شعر الناس بالظلم وغياب العدل استحضروا شخصية الخليفتين عمر بن الخطاب، وعمر بن عبدالعزيز، بوصفهما غير معصومين استطاعا أن يرتقيا إلى المفهوم الديني في رفع الظلم وتحقيق العدل.
ولم يسلم المخيال الشعبي من التمثيل الرمزي للتعبير عن الحلم في وجود مخلص. ففي زمن التاريخ العربي المتأخر في عصر ما قبل النهضة الحديثة، نشطت السير الشعبية مثل سيرة عنترة وتغريبة بني هلال والزير سالم، والأميرة ذات الهمة، ومضمونها النهائي ضرورة وجود البطل المطلق والرمز المخلص من التشتت والضياع والحياة الآسنة. ففي سيرة عنترة تتحد البيارق كلها تحت راية واحدة طالما أنها هي الراية التي تحقق النصر، وتعوض الفقدان والخسارة. والمخيال الشعبي ليس بدعا حين يتعلق بشخص يخلص الأمة من سقوطها. فقد تعلق قراء التاريخ وسدنته بانتصار صلاح الدين الذي أعاد بيت المقدس لرحاب الإسلام والمسلمين، ولم يتم استحضار شخصية صلاح الدين على نحو رومانسي إلا في لحظة العجز عن استرداد بيت المقدس من هيمنة العدو في عصرنا المنكسر بالخيبات والهزائم. وليس على سبيل المفارقة أن يستحضر العرب التاريخ بحنين مفرط، فالتاريخ في حالتنا العربية الراهنة ملاذ الضعفاء، وبلسم لمن عز شفاؤه.
من يتأمل السياق السياسي العربي الحديث يجد أن تجربتنا ما زالت مرهونة لزعامة الفرد المخلص، وهو ما وجدته الجماهير العربية في الرئيس المصري جمال عبدالناصر في حقبة الخمسينات والستينات الميلادية. فخطابه جاء ملبيا لطموح الانتصار دون بذل أسباب الانتصار. فلم يزد جمال عبدالناصر أن عبر بالخطب الحماسية عن حاجة العرب للانتصار على الاستعمار وأعوانه، عن الحاجة للانتصار على المغتصب لأرض الأنبياء، فلسطين. فجاء حضوره كبيرا في أذهان الجماهير، إذ أمم الاقتصاد، وانحاز للفقراء ضد الارستقراطية، وأكد على سحق العدو ورميه في البحر إمعانا في الانتصار. للأسف لا الوعد تحقق ولا الجماهير انعتقت من وهمها. فما زال البحث عن بطل مخلص هي السمة الأبرز في تفكيرنا. إذ يأبى العقل العربي التفكير في العمل بروح الجماعة لتحقيق التفوق والانتصار.
لقد أصبح أي قائد ينادي بهلاك إسرائيل بطلا ومشروع مخلص، والجماهير العربية لفرط عاطفتها حيال فكر الخلاص غفرت لصدام حسين غزوه للكويت في سبيل هلاك إسرائيل، فلا الكويت سلمت، ولا إسرائيل هلكت. إنما الذي هلك هو الحلم بالخلاص.
ولا نستغرب انحياز بعض النخب الدينية وأتباعهم لخطاب بن لادن السياسي الذي مثل هذا الوعد بالخلاص دون خلاص، وإمعان البعض في فكرة المحاربة بطريقة الانتحار بوصفها جزءا من البحث عن انتصار جر مزيدا من الهزائم، فهم يحاربون الهواء؛ إذ لا العدو هلك، ولا بلاد العرب والمسلمين سلمت من عبث الاقتتال.
ومن يتابع الدراما التلفزيونية التاريخية يشتم تجربة السير الشعبية في تكريس فكرة البطل المخلص، إذ معظمها تعبير عن تجربة الرموز الذين كانوا أوفياء لعصرهم، لكن الدراما التلفزيونية تستحضر الرموز التاريخية لغايات الإشباع النفسي بوصفها جزءا من لعبة تفريغ الشحنات تجاه البحث عن انتصار مؤجل. وبطبعها الميلودراما التلفزيونية تمثل الجزء الأساس من خطاب التوجيه والتعبئة النفسية للجماهير بصرفهم عن شواغل السياسة، إذ تصرف الملايين للتشبع بالمواد الدرامية، وخصوصا في شهر رمضان، ليس من أجل شغل الناس عن العبادة، كما يزعم البعض، بل لاستغلال الكثافة الجماهيرية لتحقيق وصول أكبر للرسائل الموجهة.
في لحظة المفارقة التاريخية جاء الربيع العربي بكل ملابساته خروجا على فكرة البطل المخلص، إلى رمزية الفعل الجمعي، لكنه فعل مشحون غير واع باللحظة باستثناء سقوط نظام وقيام آخر. ومهما يكن، ورغم تعثر تجارب هذا الربيع العربي، فإن ذلك يعد سابقة في التاريخ العربي.