«وش ترجع»؟.. عنصرية تجرح اللُّحمة الوطنية!

غسان بادكوك

نعلم جيدا أننا لسنا مجتمعا مثاليا وبالتالي فنحن كغيرنا من الشعوب نعاني من بعض مظاهر العنصرية الناتجة عن اختلال القيم والمفاهيم، وغياب بعض القوانين الصريحة الرادعة؛ لذلك فإذا ما أردنا التخلص من العنصرية فإنه يجب علينا مواجهتها بحزم، وأن نعمل على وضع حد لها في أسرع وقت ممكن، وبكل الوسائل المتاحة، إلا أن ذلك سيتطلب منا أكثر من مجرد الحديث عنها وإدانتها في مجالسنا الخاصة أو استهجانها واستنكارها عبر وسائل إعلامنا، وحتى نتمكن من مواجهة تلك الممارسات، لا بد أن نعترف بوجودها أولا، ثم بتراخينا في التعامل معها مبكرا، وذلك قبل أن ننتقل لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بالتخلص منها بعد أن تغاضينا عن تغلغلها في السلوك الاجتماعي بدون أن نبادر لوأدها.
ومن أبرز المظاهر الدالة على العنصرية والتمييز في مجتمعنا هناك سؤال تقليدي يعكس الخلل القِيَمي الذي أشرت إليه ويُنبئ عن ثقافة ضحلة، ورؤية ضيقة، ونَفَس عنصري كريه؛ وقد تُحدِّد الإجابه علية طبيعة ردود الأفعال والأقوال التاليه له، وكثيرا ما يتردد على ألسنة بعض العامة ويأخذ صيغا عديدة من نوع «إيش تعوِّد» أو «من وين إنت» ؟ أو «وش ترجع»؟، ومثل السؤال السابق هناك مقولات لا تختلف في مضمونها عنه في المعنى وتتردد كثيرا عن بعض المواطنين لا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي ومفادها أن فلانا «ليس من أهل البلد»! أو أنه «طرش بحر»!.
والمقصود بذلك هو التشكيك في وطنية وانتماء شريحة عريضة من المواطنين الذين نزح أجدادهم منذ قرون أو عقود من الزمن إلى أرض المملكة قبل تأسيسها أو بعده، واستحقوا جنسيتها، أو اكتسبوها لاحقا، وأسهموا بنتاجهم الفكري والمعرفي والعلمي في نهضتها وتنميتها، واستقروا في مناطقها المختلفة لا سيما بالقرب من الحرمين الشريفين في مدن منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأصبحوا مكوِّنا أساسيا من النسيج الاجتماعي للبلاد.
وتعتبر المناطقية والقبلية وكافة أشكال التمييز الاجتماعي من أهم السلوكيات ذات الطابع العنصري حيث تعاني شريحة من المواطنين في مجتمعنا من نظرة الآخرين الدونية تجاههم؛ فقط لأنهم لا ينتسبون إلى قبيلة، أو لا ينتمي أسلافهم إلى إحدى مناطق بلادنا، نظراً لكون جذورهم تعود لأقاليم أو بلدان تقع خارج الحدود الجغرافية للمملكة، كما قد يتعرضون للتمييز والسخرية لأسباب عديدة لا دخل لهم بها منها انتسابهم لمدن بعينها، أوحتى بسبب أشكالهم وألوان بشرتهم، أو عاداتهم ولهجاتهم والتي قد تصبح مادة للتندُّر في الإعلام؛ لا سيما المُشاهد منه؛ فقط لأنها تختلف عن السمات السائدة في البلاد أو في بعض أجزائها!.
ماتقدم اختص بالتمييز المجتمعي ضد بعض المواطنين من قبل بعضهم الآخر؛ أما لو وسَّعنا الدائرة قليلا فإن الأمر سيكون أشد وطأة على الكثير من إخواننا من غير السعوديين لاسيما من بعض الدول العربية والإسلامية التي تشكل مصادر رئيسية للعمالة الوافدة ممن ينظر إليهم البعض منا نظرة تعال، بل وقد يعتبرونهم أقل درجة على سلم الإنسانية!، فقط لأن ظروفهم أجبرتهم على البحث عن سبل الرزق الكريم في بلادنا، متناسين أن بعض تلك البلدان كانت في يوم ما وقبل أن ينعم الله على بلادنا باكتشاف النفط هي من الدول التي أسهم حجاجها ومعتمروها في الإنفاق على الحرمين الشريفين، وكسوة الكعبة المشرفة، وتحريك عجلة الاقتصاد في أجزاء عديدة في بلادنا قبل توحيدها.
ووجه الغرابة هنا أننا بلد يدين جميع مواطنيه بالإسلام ولله الحمد، وتُعتبر المساواة هي إحدى القيم البارزة التي قام عليها ديننا الحنيف الذي جعل من بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي أكرم وأعز عند الله من أبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وذلك وفقا للتقوى التي جعلها الله عز وجل معيارا للتفاضل بين الناس وليس الحسب والنسب والشكل أو المرجعية المكانية أو القوة المادية، هذا فضلا عن أن مصادر تشريعنا تضم عشرات الآيات الكريمات والأحاديث النبوية الشريفة على قائلها أفضل الصلاة والسلام، والتي تنبذ العنصرية وتعتبرها من الإرث الجاهلي النتن البغيض، إضافة إلى أن استمرار مثل هذا التمييز يشكل جرحا للحمة الوطنية الوثيقة التي بنى عليها الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود- طيّب الله ثراه- هذا الكيان المتماسك الكبير؛ على العدل والمساواة والكرامة للجميع.
خلاصة الأمر فإن أحد الأنظمة التي أتمنى أن تبادر حكومتنا الرشيدة ومجلس الشورى الموقر بالعمل إلى تشريعها وتطبيقها في أقرب وقت ممكن هو نظام واضح وصارم لمواجهة العنصرية والتمييز بكافة أشكالهما سواء ضد المواطنين أو المقيمين في بلادنا وذلك أسوة بالعديد من الأنظمة التي تم إقرارها في السنوات القليلة الماضية في إطار النهج الإصلاحي لوالد الوطن الملك عبدالله - يحفظه الله- وكان لها أكبر الأثر في تعزيز الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي في المملكة، وأن لا نكتفي بذلك فقط بل إن نحرص على إدراج وتصحيح الكثير من تلك المفاهيم والاختلالات المغلوطة وذلك عبر نظامنا التعليمي بكافة مراحله.