رداء الخضـوع

رندا الشيخ

تستفزني فكرة الخضوع للظروف أو لسطوة الأفراد أو لدهشة المواقف التي تشل حركتنا أحيانا، وأهوى أخذ زمام المبادرة نحو أي شيء أفكر في فعله بعد دراسة وتخطيط ودون تردد يقتل حماستي. لم أولد هكذا، بل تعلمت القيام بذلك من والدتي ــ أطال الله في عمرها ــ بالمحاكاة وبعيدا عن التلقين. فحياتها كانت ومازالت حتى هذه اللحظة تزخر بالتحديات التي تدهشني بتجاوزها لها بصمود عجيب لا أفهمه أحيانا، وبيقين عامر بالأمل!.
يرى البعض أن الخضوع هو مرادف للرضى أو القناعة أو الإيمان، لكن إن فكرنا بعمق أكبر فسندرك أن الخضوع هو تخاذل يرتدي ثوب الاستسلام. إنه خنوع تمارسه الأرواح اليائسة التي لا تملك الهمة ولا النفس الطويل ولا الحلم العنيد، ولا تتقن سوى التباكي من قسوة القدر. «سراج» كان أحد أولئك، وعاش على تلك الحال لسنوات، حتى تغيرت حياته في لحظة!.
ولد لأب يعمل خبازا في فرن صغير يملكه، ويهب السعادة في رغيف خبز لذيذ ينتظره أبناء الحارة كل صباح بترقب. شب سراج على رائحة احتراق الحطب وتلطخ وجهه ببياض الدقيق، وكان يسعد بمد يد العون لوالده في مواسم العطلة. بعد عدة أعوام، وتحديدا في سنة تخرجه من الثانوية العامة، مرض والده ثم توفي بعد أشهر. وفجأة، وجد سراج نفسه أمام مسؤولية لم يحسب لها حسابا! حين اكتشف أن عليه بيع المخبز لسداد ديون والده المتراكمة. وبعد أن فعل، وباع بكل استسلام الفرن الذي كان إرثا لأجداده، ظل لأشهر يتنقل بين الوظائف باحثا عن عمل يستطيع من خلاله إعالة نفسه ووالدته ودفع رسوم الجامعة، دون أن ينعم بالاستقرار. وفي يوم مختلف، لمح من نافذة غرفته رجلا مقعدا وحيدا يبيع المثلجات لأطفال الحي مبتسما! راقبه حتى انتهى من بيع كل مالديه ثم جمع أغراضه بكل خفة عائدا إلى منزله! هنا، شعر بشيء يتحرك بداخله! وبما أنه الوحيد الذي يملك الخلطة السرية للخبز الذي كان يصنعه والده، قرر أن يستثمر ذلك ويبدأ الخبز والبيع والتوزيع من منزله وبمساعدة والدته وجاراتها. وشيئا فشيئا نجح في جمع مبلغ يكفي لاستئجار فرن والده من جديد!.
لم تنته القصة هنا عزيزي القارئ ، فقد استعاد سراج ملكية المخبز وصنع اسما لامعا في أقل من خمس سنوات وفروعا كثيرة قد تلمح أحدها وأنت تتنقل في شوارع مدينتك وأنهى دراسته ويخطط لزواجه. كل ذلك حدث فقط لأنه اختار خلع رداء الخضوع.. ماذا عنك؟.