الشعر ماء العالم ورئته وهواؤه

شوقي بزيع

\يستحق الشعر ــ دون شك ــ أن يخصص له يوم احتفالي. يستحق ذلك؛ لأنه من الأشياء القليلة في هذا العالم التي تجعل الحياة قابلة لأن تعاش. فحياة بلا شعر هي حياة جافة وقاحلة ومسحوبة العصب. الشعر ماء العالم ورئته وهواؤه النقي. وحيث تبدو المدن أبراجا صماء والبشر أرقاما مجردة وحصالات نقود، يتقدم الشعر أعزل إلا من الدفء؛ ليمنحنا جدارة العيش وأهلية الإقامة على الأرض. لا أقصد بالشعر ــ هنا ــ ذلك الكلام المرهف والجارح الذي يدونه الشعراء على الورق فحسب، بل أقصد الجمال غير العادي الذي تؤلفه الينابيع في انبجاسها من الصلصال. أقصد الغيوم في تشكلها التلقائي على هيئة نمر أو امرأة أو طائر. أقصد اللغة المضمرة التي تعجز عن الإفصاح في عيون العشاق المترعة بالوجد، والرسائل غير المكتوبة التي تحملها الشموس الصباحية في ضفائرها الشقراء. ليس أقل من أن نمنح للشعر عيدا سنويا يذكرنا بفرح الأرض التي خاصمها الفرح منذ عقود، وتعهدتها الحروب الضروس بالأهوال والكوارث والمجازر المروعة. ليس أقل من أن نستعير، مرة جديدة، جناحي «إيكاروس» الذي دفعته الميثولوجيا القديمة إلى الحلم بالطيران، حتى ولو كنا نعلم تمام العلم أن الأحلام المصنوعة من الشمع قد لا تصمد طويلا أمام عين الشموس الحارقة. صحيح أن الشعر يتركنا في مهب الأسئلة المؤرقة ولا يقدم إجابات شافية لمتنكبي مجاهيله الكثر، ولكن المتعة ليست في الهدف، بل في الطريق، وفي السؤال، لا في الإجابة. أجمل ما في الشعر أن البشر في ظلاله لا يشيخون. إنهم يتأبدون في الينابيع التي يمنحها التكرار قوة الانبثاق ونعمة التدفق المستمر. إننا ونحن نبحث عن طواطمنا الأصلية المعصومة من الذبول نقيم في عهدة الجمال القادم من الجهة الوحشية للجمال، ومن البراري التي لا تشيخ. وهو ما يمثله بدقة قول الفيلسوف الفرنسي بشلار «يبعث فينا الشعراء رنين النماذج المثالية للطفولة الكونية». ليس صدفة، تبعا لذلك، أن يُختار للشعر عيده في اليوم الأول من الربيع، متوافقا في الآن ذاته مع عيدي الطفل والأم. فالشعر كالربيع إعلان ساطع بقيامة الأرض بعد سبات طويل. وهو تفتح للمخيلة وتطلع للأبهى والأشف وغير المتحقق. وفيه تختزن الدلالات الأمثل لأنوثة العالم المترعة بالشغف والفتنة، وللأمومة المترعة بالحنو والحدب والمحبة الخالصة من كل شائبة. كل شعر حقيقي لا بد أن تخالطه، تبعا لذلك، موجة ندية الأنوثة. والشعراء إناث قومهم ــ على ما يذهب بعض المفكرين ــ لا بالمعنى البيولوجي للدلالة، بل بمعنى الشفافية المفرطة في العلاقة مع الوجود والمفردات. صحيح أن الشعراء يتكاثرون فيما الشعر الحقيقي يتراجع منسوبه إلى حد بعيد. وصحيح أن تحديد يوم للشعر هو اعتراف من البشرية ضمني بأن الأيام الأخرى ليست له بأي حال، تماما كما هو حال المعلم والعامل والمرأة والبيئة وغير ذلك، ولكن الشعر ليس في مأزق ما دامت القضايا التي يتصدى لها، كالحب والحرية والحياة والفقر والظلم والكرامة والموت، لن تجد سبيلها إلى الحل على امتداد العصور. والشعر لن يضمر أبدا ما دامت اللغة التي نتكلمها في حياتنا اليومية آهلة، ودون أن نعلم، بعشرات الكنايات والمجازات، وما دامت القصيدة لا تنتظر الشعراء لكي يكتبوها على الورق، بل تجد عبر آلاف الطرق سبيلها إلى التحقق والانتشار.