لغة الأرض

محمد عبدالواحد

•• لا ليس هكذا.. إنه لا يخرج من بين الأوراق الميتة ولا يأتي صوته من خلف الأنقاض.. واهنا خافتا .. مستكينا .. يائسا .. لم يحدث هذا قط.. حتى في منعطفات الزمن البائس - كان هو - هو - كعادته حيا .. صاخبا .. راكضا .. يتسلق الحيطان المرطبة.. ويقف على الشطآن. ويستقبل الريح والمطر كأغصان الشجر.. كان يأتي كذلك النبت البري في كل مكان .. يبزغ من شقوق الأرض ويصعد إلى أعلى بدون حدود أو قيود.. وحتى في مواسم الجفاف كان ينتصب كالغصن العاري في شموخ الفقراء.. والبؤساء.. والصامدين.. والحامدين.. والباحثين عن أصول جذورهم.. وارتباطهم بتراب الأرض التي يقفون عليها.. كان يعانق كل صباح زهور الوادي.. وتعرف قدماه طريقها إلى أعلى الجبل الأخضر.. ومدرجاته المزروعة.. بشجر المانجو.. والتين.. والباباي .. والموز..
•• وكان يعرف من رائحة الشجر.. موعد قدوم المطر.. ويعرف ملامح السحب.. ودموعها.. وكثافة حزنها.. وكانت ماشيته القليلة في السهل.. ترفع آذانها.. وتقفز بمرح على إيقاع قطرات الماء.. ولم يكن يجهد طويلا في جمع القطيع.. عند الإياب.. كان يكفيه.. أن يغني .. ذلك الغناء الجبلي العذب.. فتجتمع كل المعيز فيقودها بصوته لا بعصاه.. كان الماعز حينها يعشق الغناء.. ويستجيب للنداء.. ما كان صاحبي يعرف عقوق الغنم كان يتحدث إليها فتفهم.. وكانت تتبعه.. إلى كهوف الجبل عندما يشتد هطول الأمطار..
•• في ذلك الزمن كان العشب .. يملأ الأرض..وأينما تولي وجهك تجد الخير..
•• اليوم تغير كل شيء .. السهل والجبل.. والعشب والماشية والراعي. لقد برمج السماد والمكن الأرض والإنسان والحيوان.. وما عادت الغنم تعرف لغة الراعي .. ولا لغة السحب.. ولا رائحة الطين والمطر.. لقد تغيرت الدنيا وتغير لونها.. وطعمها.. ورائحتها.. وحتى مذاق الثمار.. لقد غيرت المواد الكيماوية طعم التين.. والمانجو.. وحليب البقر.. ولكن صاحبي بقي كما هو.. يقف على «عقم» حقله يزرع الأرض بيديه.. ولا زال عرقه هو السماد لأرض لا يخضر وجهها إلا بجهد الرجال..
•• هذا هو وجه صاحبي .. الذي بقي مكافحا .. ملتصقا بالطين في أرض الجنوب.. والشمال. وفي بساتين القصيم وحائل وتبوك وجيزان والأحساء هؤلاء هم أحبتي الذين أحيوا تراب بلادهم فما بخلت عليهم أرضهم بخيراتها.
وهكذا، هي أرض الخير لا تحب إلا من يحبها ولا أزيد.