هل يشبه الشعراء أشعارهم ؟

شوقي بزيع

لا يأبه النقد الحديث لسير الشعراء ولا لسلوكياتهم، ولم تعد القراءات النقدية الراهنة تعير وزنا يذكر لحياة الشاعر أو مكانته الاجتماعية والسياسية. وهو أمر ينسحب بالطبع على سائر الكتاب والفنانين. لا بل إن بعض النظريات النقدية قد ذهبت في غلوها إلى القول بموت المؤلف الذي يواجه بعد إنجاز نصوصه مصيرا مأساويا لا يختلف بكثير عن مصير ذكر النحل. مثل هذه النظريات لا تلزم الكاتب بشيء سوى الكتابة نفسها، ولا يعني أصحابها أن يكون الكاتب فاضلا أو شريرا، دمثا أو فظا، ملتزما بقضايا شعبه أو عدميا ومنفصلا عن الواقع. فالقارئ لا يواجه في النهاية سوى النصوص وحدها، عزلاء ومجردة من أية قيمة أخلاقية وسلوكية مضافة. وإذا كنا نوافق هؤلاء على أن النصوص وحدها هي التي تتقدم بعد انطفاء أصحابها الجسدي لمواجهة الزمن، فإن ذلك لا يمنعنا من البحث، ولو على سبيل الفضول، عن علاقة ما تقوم بين الشعر والشاعر، أو بين الفن والفنان بوجه عام. وهي ليست علاقة تشابه بالضرورة، بل قد تكون علاقة تمويه أو مخاتلة أو تضاد في بعض الأحيان. لقد حاول التحليل النفسي للأدب أن يقيم وشائج وصلات وثيقة بين النص الإبداعي وبين الدواخل النفسية المعقدة لصاحبه. وهو ما دفع بعض المعالجين النفسيين إلى الطلب من المريض أن يكتب أو يرسم بشكل عفوي ما يدور في خلده من وساوس، بغية الوقوف على ما يعتور حياته من عوائق وعقد كامنة في الأعماق. ولو أمعنا النظر في شخصية بعض من نعرفهم من الشعراء المرموقين في عالمنا العربي لاستطعنا أن نقيم صلات واضحة بينهم وبين لغاتهم ومناخات شعرهم وأساليبهم التعبيرية. فلغة سعيد عقل الباذخة والمفرطة في أناقتها حد الجمال الساكن تظهر بشكل جلي في قامته الباسقة وجبينه المتعالي وسلوكه الأرستقراطي الذي يتغذى من قيم وسلوكيات منفصلة عن الواقع المعيش والحياة المتشظية. ومن عايش بدر شاكر السياب لن يبذل كبير جهد لكي يربط بين جسده المهيض وروحه المتصدعة وحياته المثخنة بالفقر والألم من جهة، وبين لغته الشجية وإيقاعاته الآسرة والمحنية على انكساراتها من جهة أخرى. قد تكون الأناقة والاحتفاء بالجمال هما ما يجمع بين سعيد عقل ونزار قباني. لكن الفارق الجوهري بينهما يكمن في رؤيتين للعالم ونظام القيم تتصل أولاهما بقيم الحقبة شبه الإقطاعية التي تحتل الفروسية والترفع والنبل والشهامة والنظرة المثالية للمرأة واسطة عقدها الأهم، فيما يعكس تمرد نزار قباني وولعه الشهواني بالأنوثة قيم البورجوازية الشامية واحتفاءها الواضح بالحرية والمغامرة ولذة العيش. على أن العلاقة بين الشعر والشاعر لا يترجمها بالضرورة المظهر والسلوك الخارجي، إذ يكون الشعر أحيانا مناقضا لما يظهر على السطح من سلوك الشاعر. فالشاعر الراحل ممدوح عدوان كان في حياته اليومية وسلوكه المعروف أقرب إلى الصعلكة والمجون والضحك الساخر والنكتة اللماحة منه إلى أي شيء آخر. في حين أن شعره كان ينضح بالحزن والغضب والتفجع المأساوي. وكذلك كان الأمر مع صديقه الأثير علي الجندي، الذي رحل بعده بوقت قصير. كما أن روح التمرد والعبث لدى الشاعرين ذهبت في بنية النص إلى مكان أقل تمردا وأكثر محافظة على تقاليد الحداثة الأولى. قد لا تتمكن وقفة قصيرة كهذه من أن تفي الموضوع حقه من المعالجة وتقديم الشواهد ولكن إثبات العلاقة، ولو في حيز معقد وإشكالي، بين الشعراء ونصوصهم الإبداعية مسألة هامة ومثيرة للجدل ومستحقة للعناد.