«هرِمنا»

سالم الأحمدي

الأحداث الأكثر رسوخا في ذاكرتنا هي تلك الأحداث التي تمر بنا في مراحل عمرنا الأولى، فجميعنا ما زال يذكر أدق التفاصيل التي مرت به في تلك المرحلة العمرية من حياته، فما زلت أذكر في بدايات مراحل عمري الدراسية الأولى عندما كنت أحمل حقيبتي المدرسية المثقلة بالكتب على ظهري الغض، مرافقا إخوتي إلى مدرستي المتواضعة في أحد أحياء جدة العتيقة، وكيف أني في كل يوم كان يشدني كثيرا منظر رجل اتخذ من كرسي خشبي مقعدا له أمام أحد المباني التي يحرسها، وعندما أعود في الظهيرة من مدرستي أجد ذلك الرجل لم يبرح مكانه ولم يعدل من جلسته رغم ملامح التعب التي كست وجهه الشاحب، ومرت الأيام وتلتها السنون، وكبر ذلك الطفل الذي كان يحمل حقيبته المدرسية، وغادر ذلك الحي، وأصبح شابا فأراد أن يقف على أطلال ذلك الحي العتيق الذي كان يسكنه فقام بالذهاب إليه للوقوف على ذكريات طفولته، فلم يجد من ذكريات الماضي إلا ما ندر، فالمباني قد تجددت والشوارع قد عبدت، ولكن ما استوقفه كثيرا وجود ذلك الرجل في ذات المكان، إلا أن تصاريف الزمان أخذت من نضارة وجه ذلك الرجل الشيء الكثير، وبدأت على سحنته علامات الوهن والكبر، فبادرته بالسؤال: لماذا لم تبرح مكانك أيها الشيخ الوقور، ولماذا لم تبحث عن عمل جديد يقيك حر الشمس، ولماذا ظللت طوال تلك الفترة تتأمل قوافل العابرين دون أن تحرك ساكنا، فلم أجد لديه إجابة شافية ووافية، إلا أنه كان يتمتم بكلمات لم أفهم منها إلا أنه شخص يخشى التغيير، ويخاف التجديد، فلا أعلم لماذا تبادر إلى ذهني في تلك اللحظة حال أحد الأندية الذي لم يبادر مسيروه في تغيير سياساتهم، ولم يتأثروا بقوافل العابرين من منافسيهم نحو تحقيق المنجزات والبطولات، فظلوا مكتفين في كل عام بتكرار ذات الفكر، وذات القناعات حتى أصابوا جماهير ناديهم بالإحباط، وبخيبة الأمل، فاستوطن الألم بدواخلهم وهم ينظرون إلى قطار أعمارهم يمضي دون أن تتحقق آمالهم وأحلامهم فراحوا يرددون بصوت أتعبه الانتظار «هرِمنا، هرِمنا هرِِمنا».
ترنيمة:
أقبلي مثل التباشير في وجه الكريم
وارحلي مثل التعازي على موت الشجاع