ثقافة المديح
السبت / 12 / جمادى الآخرة / 1435 هـ السبت 12 أبريل 2014 19:36
حسن النعمي
المدح في أصله هو الثناء الحسن على فعل أو مأثرة يفيد منها الناس، فليست صنيعا من أجل علو المقام، بل صنيع من أجل الناس، من هنا يكتسب الثناء قيمته، وعليه يستحق من له حق الثناء كل قول ينصرف إليه.
ولا يسع المرء إلا أن يجد في المدائح النبوية قديما وحديثا أبلغ ما قيل لأنها نابعة من محبة خالصة، وليس لغرض دنيوي كما هو الغالب في معظم مدائح الشعراء. إذن المدح أو الثناء ليس مذموما لذاته، بل مذموم لانصرافه لغير وجه حق.
ثقافة المديح أصيلة في تراثنا العربي، فقد جاء قدر كبير من شعرنا العربي مدائح قليلها يستحق التقدير، ومعظمها تملق وافتراء على الحقيقة. وتحضرني هنا مدائح الشاعر زهير بن أبي سلمى في الحارث بن عوف وهرم بن سنان وقد أسهما في إطفاء نار الفتنة بين المتحاربين من عبس وذبيان. فمدح زهير بن أبي سلمى صنيعهما دون تطلع للتكسب بما قال. ويروى أن عمر بن الخطاب وقد لقي بعض ولد هرم بن سنان في خلافته، فقال: إن زهيرا كان يحسن فيكم القول. قال ونحن والله كنا نحسن له العطاء، فقال عمر قولته المشهورة: (قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم).
غير أن النهي قائم في شأن المدح سواء انصرف المدح للذات أو للغير، ويبقى الحكم على هذا الأمر نسبيا. ففي الحديث (احثوا التراب في وجوه المداحين)، وهذا لا يعني كل مدح، بل ما كان في غير موضعه مضللا، ومخادعا.
ومن ينظر لتاريخ المدائح الشعرية قد لا يخلو الحال من أمرين؛ أحدهما إما أن يكون المدح موافقا للحق، ومثمنا بالشكر ما يستحقه الممدوح. أو أن يكون القول بالمدح تملقا وافتراء ومجانبا للواقع.
غير أنه يمكن قراءة هذه المدائح التي يبدو عليها التملق من وجه آخر، وهو أنها قد تفترض الأحسن من الصفات في الممدوح على الرغم من عدم توفرها فيه. فالقول بخلق الممدوح أو شهامته، أو حسن تدبيره، لا يعنى إلا ما ينبغي أن يكون عليه. فليست بالضرورة مبالغة في القول وإحلال لصفات ليست فيه. فتكرار الصفات الجميلة قد ينتج نوعا من الحياء عند الممدوح للأخذ بها. فمن لم تكن له صفات من الحسن في أصله، تطبع بها من باب اشتهاء المقامات الرفيعة. فهل الشعراء يسلكون ذلك عن وعي أم أن الأمر مجرد قراءة فضفاضة من باب العشم في آلاف المدائح التي دبجها الشعراء قديما وحديثا، على أنه لا أثر لها؟ ليس من واجب الشعراء إلا القول بالأجمل حتى لو كان لهم غرض الكسب الآني، فإن تكرار القول بالصفات الحسنة قد ينزل منزلة الإدانة فيما بين الممدوح وذاته، حتى لو قضى الممدوح عمره على عكس ما يقوله الشعراء.
والمدح وإن كان شعرا فهو جزء من الخطاب السياسي العربي، إذ يجلس الخليفة يستمع إلى ثناء المادحين لسياسته وحسن تدبيره، ولا يسمع شيئا عما قد يكون خلاف ذلك، لأن الغاية من المدح هو إعلاء شأن، وإشارة لمنزلة، وصد عن سماع ما قد يعكر صفو الحاكم..
وفي عصرنا الحاضر يلعب الإعلام دور الشعر والشعراء، وماتزال مقومات المدح كما هي قائمة، إذ تقدم جميل القول على النقد، والكمال على النقصان، والنتيجة انتفاء معرفة الحقيقة. والإعلام العربي يقول ما يرضي صانعه، لا ما يرضي متلقيه، وكأن الغاية البحث عن بديل للشعراء الذين عز تأثيرهم في هذا العصر كما كانوا مؤثرين في الماضي. أو لعل وسائل المدح قد تجاوزت الشعراء إلى ما هو أكثر بلاغة، وأكثر حضورا وامتلاكا للتأثير.
قول الحقيقة لا يحتاج لشعراء ولا إعلام، بل يحتاج إلى ضمير يقظ، وإلى أفعال يراها الناس، ويفيد منها الجميع، وقتها سيأتي الثناء مهرولا، ويأتي الدعاء مقدما على كل شكر.
ولا يسع المرء إلا أن يجد في المدائح النبوية قديما وحديثا أبلغ ما قيل لأنها نابعة من محبة خالصة، وليس لغرض دنيوي كما هو الغالب في معظم مدائح الشعراء. إذن المدح أو الثناء ليس مذموما لذاته، بل مذموم لانصرافه لغير وجه حق.
ثقافة المديح أصيلة في تراثنا العربي، فقد جاء قدر كبير من شعرنا العربي مدائح قليلها يستحق التقدير، ومعظمها تملق وافتراء على الحقيقة. وتحضرني هنا مدائح الشاعر زهير بن أبي سلمى في الحارث بن عوف وهرم بن سنان وقد أسهما في إطفاء نار الفتنة بين المتحاربين من عبس وذبيان. فمدح زهير بن أبي سلمى صنيعهما دون تطلع للتكسب بما قال. ويروى أن عمر بن الخطاب وقد لقي بعض ولد هرم بن سنان في خلافته، فقال: إن زهيرا كان يحسن فيكم القول. قال ونحن والله كنا نحسن له العطاء، فقال عمر قولته المشهورة: (قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم).
غير أن النهي قائم في شأن المدح سواء انصرف المدح للذات أو للغير، ويبقى الحكم على هذا الأمر نسبيا. ففي الحديث (احثوا التراب في وجوه المداحين)، وهذا لا يعني كل مدح، بل ما كان في غير موضعه مضللا، ومخادعا.
ومن ينظر لتاريخ المدائح الشعرية قد لا يخلو الحال من أمرين؛ أحدهما إما أن يكون المدح موافقا للحق، ومثمنا بالشكر ما يستحقه الممدوح. أو أن يكون القول بالمدح تملقا وافتراء ومجانبا للواقع.
غير أنه يمكن قراءة هذه المدائح التي يبدو عليها التملق من وجه آخر، وهو أنها قد تفترض الأحسن من الصفات في الممدوح على الرغم من عدم توفرها فيه. فالقول بخلق الممدوح أو شهامته، أو حسن تدبيره، لا يعنى إلا ما ينبغي أن يكون عليه. فليست بالضرورة مبالغة في القول وإحلال لصفات ليست فيه. فتكرار الصفات الجميلة قد ينتج نوعا من الحياء عند الممدوح للأخذ بها. فمن لم تكن له صفات من الحسن في أصله، تطبع بها من باب اشتهاء المقامات الرفيعة. فهل الشعراء يسلكون ذلك عن وعي أم أن الأمر مجرد قراءة فضفاضة من باب العشم في آلاف المدائح التي دبجها الشعراء قديما وحديثا، على أنه لا أثر لها؟ ليس من واجب الشعراء إلا القول بالأجمل حتى لو كان لهم غرض الكسب الآني، فإن تكرار القول بالصفات الحسنة قد ينزل منزلة الإدانة فيما بين الممدوح وذاته، حتى لو قضى الممدوح عمره على عكس ما يقوله الشعراء.
والمدح وإن كان شعرا فهو جزء من الخطاب السياسي العربي، إذ يجلس الخليفة يستمع إلى ثناء المادحين لسياسته وحسن تدبيره، ولا يسمع شيئا عما قد يكون خلاف ذلك، لأن الغاية من المدح هو إعلاء شأن، وإشارة لمنزلة، وصد عن سماع ما قد يعكر صفو الحاكم..
وفي عصرنا الحاضر يلعب الإعلام دور الشعر والشعراء، وماتزال مقومات المدح كما هي قائمة، إذ تقدم جميل القول على النقد، والكمال على النقصان، والنتيجة انتفاء معرفة الحقيقة. والإعلام العربي يقول ما يرضي صانعه، لا ما يرضي متلقيه، وكأن الغاية البحث عن بديل للشعراء الذين عز تأثيرهم في هذا العصر كما كانوا مؤثرين في الماضي. أو لعل وسائل المدح قد تجاوزت الشعراء إلى ما هو أكثر بلاغة، وأكثر حضورا وامتلاكا للتأثير.
قول الحقيقة لا يحتاج لشعراء ولا إعلام، بل يحتاج إلى ضمير يقظ، وإلى أفعال يراها الناس، ويفيد منها الجميع، وقتها سيأتي الثناء مهرولا، ويأتي الدعاء مقدما على كل شكر.