ربيع بلا ثقافة

شوقي بزيع

بعد ثلاث سنوات ونيف على الانتفاضات العربية ضد أنظمة الطغيان والإفقار والتجهيل، لا يكاد المرء يلحظ فارقا يذكر بين ما كانت عليه الثقافة آنذاك، وما أصبحت عليه اليوم. لا بل إن تسمية «الربيع العربي» ــ بحد ذاتها ــ باتت محلا للمساءلة والتشكيك لدى الكثير من المتابعين، بحيث بدأ البعض يتحدث عن وجه أكثر قتامة من وجوه الخريف العربي المزمن. والحقيقة أن التسمية بذاتها لم تكن سوى اقتفاء تلقائيا لتسميات مشابهة بدأت مع ربيع براغ وتواصلت مع ربع أوكرانيا، وما عرف أيضا بربيع دمشق الذي بدأت نذره الواعدة قبل ثلاثة عشر عاما قبل أن يتم إخمادها بالقسر والإكراه. وبصرف النظر عن دقة التسمية، فإن ما عرف ــ اصطلاحا ــ بالربيع العربي لم يكن ثمرة تحولات نوعية في الوعي والثقافة العربيين، بقدر ما كان أشبه بالزلازل أو الظواهر الطبيعية المباغتة التي تحدث بلا نذر ولا مقدمات. وهو ما يذكر بمقولة المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون الذي يرى بأن الزمن العربي يسير ببطء ثقيل، ثم سرعان ما ينقلب على مساره بشكل داهم وغير متوقع. وما يرجح صحة هذا الفرضية هو أن التغيير عند العرب لا يتعدى القشرة الظاهرة دون الجوهر والنواة. وهو ما تؤكده كثرة الانقلابات السياسية والعسكرية في مقابل شح الثورات الفكرية والتغيرات المفهومية والرؤيوية. لم يكن الربيع العربي بهذا المعنى تتويجا طبيعيا لتنامي الوعي الجمعي وحركة الفكر، بقدر ما كان ناجما عن شعور الناس بالذل والقهر والمهانة، حتى إذا انطلقت شرارة البوعزيزي في الغرب التونسي، تلقفتها بسرعة قياسية غابات القنوط العربي المترامية وحولتها إلى صرخة عاتية في وجه الأنظمة الأكثر تسلطا وفظاظة وتحكما بمصائر شعوبها. وما حدث ــ آنذاك ــ على روعة انطلاقته، لم يكن له ظهير ثقافي ولا منظرون يرهصون بحدوثه، كما كان الحال في غير ربيع غربي. لا بل كان المشهد على النقيض من ذلك محزنا وبائسا ومقفلا على قتامته. وكان المثقفون ــ بدورهم ــ شبه غارقين في كوما الانفصال عن الواقع، أو يائسين من التغيير، أو ملحقين بالبلاطات والسلطات الحاكمة. كان من الطبيعي في هذه الحالة أن لا تفضي الانتفاضات العربية إلى تبدل عميق في بنية الكتابة وأنساقها المعرفية والجمالية. فما حدث لم يحدث من داخل السياق الثقافي، بل وقع عليه وقوع الصاعقة وباغته على حين غرة. والشعراء والكتاب الذين أعلنوا عن ولادات جديدة لقصائدهم ونصوصهم الخامدة، سرعان ما تبين أن ما كتبوه حول الربيع العربي لم يكن سوى صدى مكرر لكتاباتهم السابقة، قبل أن يخلدوا إلى صمتهم من جديد. أما أولئك الذين ركبوا موجة الغرائز والتجييش العاطفي الإنشائي في الساحات والميادين العامة، فسرعان ما تحولوا إلى مقاولين وجباة للشهرة والمال على حساب الشعوب المنتفضة وجراحها النازفة. إنه لمن المؤلم ــ بالطبع ــ أن تترك الانتفاضات العربية في عهدة التكفيريين والاستئصاليين وقوى الظلام والردة بأنواعها. ومن المؤلم أيضا أن يستغل بعض المثقفين «الطليعيين» هذا الواقع المتعثر والمأساوي لكي يسوغوا للطغاة فظاعاتهم وارتكاباتهم ويتحولوا إلى مبشرين دائمين باليأس والعقم. ولن تعدم هذه الأمة من يدافع عن حقها في الكرامة، وهذه اللغة من يضرم النار تحت حطب إنشائها اليابس، كما لن تعدم الثقافة من يعيد لها دورها الفاعل وتجلياتها الخلاقة.