غياب ماركيز وذاكرة العالم التي شحبت
الجمعة / 25 / جمادى الآخرة / 1435 هـ الجمعة 25 أبريل 2014 21:06
شوقي بزيع
بغياب غابرييل غارسيا ماركيز، يفقد فن السرد أحد أكثر الروائيين احتفاء بالحياة وبراعة في التعبير عنها. لا بل إننا نستطيع دون شعور بالمجازفة أو الغلو أن نعتبر صاحب «قصة موت معلن» العلامة الفارقة التي انعطفت بالرواية العالمية ووفرت لها السبيل لمنافسة الشعر وزحزحته عن مكانته المفردة على امتداد قرون من الزمن. ولم يكن ماركيز ليتعمد ذلك، بالطبع، وهو الذي استهل حياته بكتابة الشعر وافتتن ببابلو نيرودا أشد الافتتان، ولكنه امتلك من الموهبة الفطرية ما جعله يدمج ببراعة بين خيال الشاعر وذاكرة الروائي، إضافة إلى توظيفه لفنون المسرح والسينما والتشكيل، كما لعلوم النفس والتاريخ والاجتماع، في رسم عوالمه وشخصياته التي حاكت ببراعة غير مسبوقة هواجس الملايين من البشر. لقد امتلك ماركيز منذ نعومة أظفاره عيني صقر وأذني خلد وأنف ذئب، وقيضت له موهبته ذاكرة هائلة الاتساع مكنته من استعادة الوقائع الصغيرة التي شهدها وعاشها، أو التي تلتها أمامه جدته الحكاءة بخيالها الجموح. وهو ــ على تواضعه ــ لم يخف امتلاكه لتلك القدرات العجائبية التي جعلت من عرفوه يعتبرونه مؤلف الهذيانات الجذابة التي يصغي إليها الكبار بانتباه لافت. ولم يكن يتجاوز الرابعة من عمره ــ وفق ما يقوله في كتاب سيرته الرائع «عشت لأروي» ــ حين كان يمتص الأحاديث التي تروى أمامه مثل إسفنجة، ويفككها إلى أجزاء ويرويها ثانية للأشخاص الذين رووها على مسامعه وكأنها أحداث أخرى مستلة من ذاكرته وبنات خياله. لا أعرف بين الذين قرأت لهم من الروائيين من امتلك مثل ماركيز هذه القدرة الهائلة على اختراع الحكايات والتنقل الرشيق بين الأماكن والأزمنة دون أن يظهر في أسلوبه أثر للصنيع أو الافتعال أو التعسف. ولا أعرف أحداً آخر استطاع أن يتوارى بالكامل خلف أبطاله تاركا لهم أن يواجهوا وحيدين، وببسالة نادرة، مصائرهم التي لا ترحم. ورغم انتمائه الأيديولوجي اليساري، فهو استطاع أن ينأى بفنه عن أية شبهة دعوية أو تحريضية، وبدا منحازا للجنس البشري برمته، وللإنسان في صراعه مع نفسه ومع الزمن والموت. لم يتورع ماركيز عن فضح وحشية الطغاة في أمريكا اللاتينية والعالم، ولكنه لم يخش التعاطف مع شعورهم بالهلع من الشيخوخة والمرض والعزلة في أواخر أيامهم. هكذا بدا الأمر في «خريف البطريرك» و«لم يعد للكولونيل من يكاتبه». ولم يبتعد عن هذا الشعور الممض بالعزلة ثائر من طراز فريد هو سيمون بوليفار في «الجنرال في متاهته». وفي «حكاية بحار غريق» يفضح الكاتب نزوع الرأسمالية المرضي إلى الربح ومراكمة الثروات وتحويل الألم الإنساني إلى حصالة للنقود. وماركيز ــ من جهة أخرى ــ هو الكاتب الذي مجد المرأة وانتصر للحب ولروح الأنوثة الكونية المتسامية على جراحها. وهو ما يظهر جليا في «الحب في زمن الكوليرا» الأشبه بملحمة مدهشة في امتداح الحب والعواطف الإنسانية النبيلة التي قادت عاشقين فتيين إلى اللقاء ثانية بعد أكثر من خمسين عاما من الفراق القسري. وفي «ذاكرة غانياتي الحزينات» التي بدت تناصا واضح المعالم مع رائعة كاوباتا الروائية «الجميلات النائمات» تتواجه الشيخوخة التسعينية مع الموت المحدق وتنتصر عليه عن طريق الحب والشغف بالحياة. إنه لمن المفارقات العجيبة، أخيرا، أن يصاب ماركيز في أواخر أيامه بفقدان الذاكرة. تلك الذاكرة التي اعتبرها الشرط الأهم لاستمرار الحياة، والتي خذلت الكاتب في شيخوخته، هي التي عجلت في نهايته وحولت حياته إلى صحراء خاوية على طريق الموت. لكنها، مع ذلك، لم تبخل على صاحبها بثروة من الحكايات وتواشجات السرد واختراع نماذج للبطولة الإنسانية لم يقيض لأحد غير ماركيز منذ «ألف ليلة وليلة» أن يملك خفاياها وألغازها المدهشة.