لبنان ... الفراغ التاريخي !

تركي الدخيل

كان جمال عبدالناصر يقول إن لبنان بطبيعته بلد لفحص توازن القوى، وفي أكثر من وثائقي حول الحرب الأهلية اللبنانية أوضحت أن البلد ومنذ نهاية الانتداب الفرنسي بدأت المشكلات تنخر فيه، واللافت أن المحاصصة الطائفية ليست صنيعة اتفاق الطائف ــ كما يعتقد البعض، بل موجودة منذ انسحاب فرنسا، حيث عقدت مواثيق وطنية غير مكتوبة لوضع كل منصبٍ رئاسي لطائفةٍ من الطوائف: الرئاسة للمسيحيين، والوزارة للمسلمين السنة، والمجلس النيابي للمسلمين الشيعة. الآن يعيد لبنان تدوير أزماته من خلال إشكالية الانتخابات الرئاسية، والذي يجري محاولة لصناعة الفراغ من قبل التيارات والأطراف المتعددة.
هناك استهتار بالمكانة التي يمثلها موقع رئاسة الجمهورية، وهو انتقاص للموقع المسيحي، في 2008 حين انتخب ميشال سليمان كان نتيجة اتفاقٍ على رئيسٍ توافقي، ومن قبله كان إميل لحود، لم يمر على لبنان رئيس حاد حازم كما هو حال كميل شمعون أو إلياس سركيس أو بشير الجميل (الذي اغتيل قبل أن يباشر عمله)، لكنه كان قادما بقوة ولديه رؤية واضحة لموضوع لبنان وصناعته من جديد وانتشاله من حال الضعف والاستقلال. لكن قدر لبنان أن الأقوياء يقتلون فيه، وبخاصةٍ من المسيحيين.
لو أن بيير بن أمين الجميل ما زال حيا ولم تغتله يد الغدر، فسيكون أنسب وأهم رئيس جمهورية في لبنان بالعصر الحديث، وكان والده بالفعل يعده لفعل ذلك. المشكلة في تدوير نفس الوجوه التي كانت أيام الحرب الأهلية، حتى وإن كانت تغيرت أو اعتدلت، إلا أن الكارثة ستبقى موجودة بسبب العمق الذي مثلته الحرب. من الصعب على تيارات تأذت وحملت ثاراتٍ بينها وبين بعضها أن تصنع بلدا قويا. هناك ثارات بين سمير جعجع وسليمان فرنجية على أثر مجزرة إهدن 1978، ومثل ذلك بين جنبلاط وحزب الكتائب، وبين حزب الله وتيار المستقبل.
لبنان يصنع فراغاته باستمرار، وليت أن مقولة جمال عبدالناصر لم تصب، لكن الواقع أثبت صحتها، لبنان مجال للتوازن في المنطقة، فجزء كبير من سيادته تسكن خارجه ــ للأسف.