أموات خلف دور المسنين

جمعهم هم المرض وهجران الولد وضغوط الحياة

أموات خلف دور المسنين

محمد الطالبي (أبها)

تكتسي ملامحهم بحزن دفين ويغلب الشرود على تفاعلهم مع الحياة التي يعيشونها منعزلين عن أسرهم كل بأسباب تختلف عن الآخر، رجال بلغ بهم العمر مبلغا ، تاريخهم يحكي عن أدوار مقدرة لعبوها لكنهم في آخر المطاف كان مصيرهم أن يحلوا ضيوفا دائمين في دور الرعاية الاجتماعية يتولى رعايتهم أغراب عنهم. وتعد دور المسنين ملاذا لمثل هؤلاء، سواء من دفع ثمن مكابرته بعدم الزواج في شبابه ليعيش بقية حياته في هذه الدور، وآخرون كانت «دور الرعاية» بالنسبة لهم مكانا أمثل يتلقون فيه الرعاية الكريمة في وقت «غاب فيه الولد والتلد» في دنياهم.

في جولة «عكاظ» لـ «دار الرعاية الاجتماعية» بأبها كنموذج لمن يطلق عليها العامة بـ (دار المسنين) لاحظت وفرة كافة احتياجات المسنين من المسكن والملبس والطعام والعلاج بشقيه الطبيعي والطبي، بالإضافة إلى العلاج النفسي، لكن ما لفت النظر أن الدار يطبق عليها الصمت بشكل كبير في جميع مرافقها ولا يكاد يسمع للمسنين أي صوت ولا للموظفين، كما يترك للمسنين حرية التحرك والانتقال من مكان لآخر دون قيود، والهدف من هذا إشعارهم بالحرية وبأنهم في منازل أسرهم ولا فرق. ورغم تلك الجهود والخدمات إلا أن المسنين يشعرون بالوحدة والعزلة وترتسم على وجوههم التي غيرتها رياح السنين. يمتاز مسنو الدار بإطاعة الأوامر والتعليمات، وينظرون إلى كل زائر وقلوبهم معلقة بأن يكون الزائر أتى لزيارتهم أو أنه أحد أقاربهم قدم للزيارة والطمأنينة.
وجوه تنظر إلى مستقبل الأيام بحرقة وتترقب ساعات اليوم بمرارة، كيف يرعون من أغراب عنهم وليسوا من أبنائهم الذين تربوا على أياديهم،
نشأوا منذ صغرهم تحت رعاية الأب والجد ولكن القلب وما حوى، أن ينظر المسن لمن يطبب على رأسه ومن يحمله ومن يساعده على تغيير ملابسه ومن يقدم له الطعام ويرعاه نهار مساء ليسوا من أبنائه أو بناته تلك انكسارة العمر.
بعض المسنين يتسم بطابع المرح والوجه البشوش والضحك، والآخرون يحيونك من على بعد بمجرد أن يروك تمر أو حتى إذا التقت عيناك بعينيه، وآخرون تجدهم ملاصقين لمقاعدهم وكراسيهم المتحركة ويبقون دون صوت، لكن لغة العيون تروي الحزن وهي تراقب كل من يدخل ويخرج من الدار. عدد من المسنين المقيمين في الدار صارحوا «عكاظ» بأنهم أعطوا زهرة حياتهم في الحياة المليئة بالعمل والإنتاج.
أما العم (أ.ج ) ترى في ملامحه آثار السنين وأخاديد مجرى العرق في وجنتيه ويداه أصبحتا (خشنتين) من العمل وليستا أكثر خشونة من شعوره بالمرارة لإقامته في هذه الدار.
يقول إنه تزوج ولكن لم يكتب الله له الاستمرار مع زوجته فطلقها، كما أنه كان أحد الموظفين الحكوميين في خميس مشيط ويستلم راتبا تقاعديا، وبعد التقاعد أصيب بالسكر والغرغرينا، مما أدى إلى بتر رجله اليسرى من منتصف الساق في المستشفى المدني بخميس مشيط، وبحكم كبره وليس لديه من يعوله التحق بالدار.
وقال: قدمت إلى الدار منذ سنوات والعاملون في الدار أصدقائي يقدمون لي وللمسنين الكثير من الخدمات الصحية والنفسية والرياضية والاجتماعية، كما أن العاملين يروننا مثل آبائهم ويعاملوننا بكل احترام وتقدير، ويسمحون لنا بالزيارات الميدانية والرحلات.
(ظ . ش) قليل الكلام يتحدث عن الخدمات التي يلقاها في الدار وكيفية الخدمة والاحترام، كان حديثه باللسان والتلويح باليدين مع حزن عميق في العيون يقول: «إن إقامته في الدار جاءت قبل أكثر من 15 عاما، حيث إنه يعاني من انفصام في الشخصية وبسبب حالته النفسية التي تستدعي رعاية نفسية مستمرة، وجد أن الدار تقدم له وسيلة النقل من وإلى المستشفى، كما تقدم له الرعاية الصحية، كما يضيف بأن والده توفي وهو داخل الدار، حيث يعتبر هو القريب الوحيد له وليس لديه أي قريب بعد وفاته، ولكن هناك بعض الأصدقاء كانوا يزورونه في الأعياد.
وهذه الجهود لا تزال لا تروي فرحة العم (ظ . ش) في رؤية أصدقائه لدى زيارتهم له من الحين للآخر، تلك الفرحة لا يعدلها فرحة لمن بقوا في الدار سنوات وكأنهم ينتظرون الفرج والفرحة المقبلة.
وقال العم (م .ع) إن ذويه يزورونه خلال فترات متقاربة ويأتون بأخبار الأقارب والجيران ويرفهون عنه، ولكن سرعان ما تمضي الساعات عندما يكونون في حضرتي ولا يكاد يكفي الوقت.
ويضيف كان ذلك الشعور عندما قدمت إلى الدار في السنوات الأولى، ولكن ذلك الشعور انزاح مع مرور السنوات، وأصبح الوقت يطول ولا يكاد ينتهي حتى بوجود أقاربي.