لماذا يخبئ المبدعون مسودَّاتهم؟

شوقي بزيع

ليست النصوص الأدبية التي يتيسر للقراء الاطلاع عليها في الكتب والدوريات سوى الصيغ الأخيرة للنصوص الأولى التي يشرع الكتاب في تدوينها ثم يشبعونها تنقيحا وصقلا. فوراء كل قصيدة عظيمة تقع عليها العيون عشرات المسودات التي تتعرض مادتها الخام مرات عدة للحذف والإضافة والتعديل قبل أن تأخذ شكلها النهائي. والأمر نفسه ينسحب بصورة من الصور على القصص والروايات والمسرحيات. ومع أن لغة النثر لا تحتاج لكي تستقيم إلى الجهود ذاتها التي يحتاجها الشعر، فإن روائيين كثرا انقلبوا على مسوداتهم الأولى مبدلين مقطعا بسواه أو فصلا بآخر. للكتابة ــ بالطبع ــ طرائقها وطقوسها «السحرية» المتباينة التي تختلف باختلاف أصحابها وحجم مواهبهم وعلو قاماتهم، أو باختلاف الأمزجة والطبائع والعادات. لكنهم نادرون أولئك الذين تسقط عليهم نعمة الإبداع، وبخاصة الشعري منه، في حالة الاكتمال ودونما حاجة للتصحيح والتعديل. ربما يحدث هذا الأمر عند قلة نادرة من الشعراء، وفي بعض القصائد والشذرات التي تشبه البرقيات واللمح القصيرة. لكن السواد الأعظم من هؤلاء لا يرضى بما يسقط عليه دفعة واحدة في لحظات الكشف والإلهام، بل يترك العمل جانبا لفترة من الزمن، ثم يعود إليه بعد ذلك ليقرأه بعين الناقد الحصيف، مشذبا ما فيه من الهنات والشوائب. وجميعنا تقريبا يعرف أن زهير بن أبي سلمى كان ينظم قصيدته في عدة أيام، ولكنه كان يقضي عاما كاملا في صقلها وإعادة تأهيلها. لكن الظاهرة اللافتة في هذا السياق هو تكتم المبدعين على ما يكتبونه، خلال عملية الكتابة من جهة، وحرصهم على إخفاء مسوداتهم من جهة أخرى. ففي الحالة الأولى يلجأ المبدع إلى التكتم على موضوعه وفكرته خوفا من أن يجهض افتضاح موضوعه قدرته على المتابعة. فالكتابة تتم عادة في الخفاء وفي عتمة الداخل ودهاليزه، ولا تخرج إلى العلن إلا في حالة الاكتمال. وكذلك الأمر بالنسبة للمسودات والمخططات الأولية للقصائد التي تكون في حالة فوضى عارمة واختلاط كامل بين السطور والمقاطع، بحيث تتعذر قراءتها في بعض الأحيان. والمبدعون حين يحرصون على إخفاء مسوداتهم، فلأنهم لا يرغبون في أن يطلع أحد من الناس على الفناء الخلفي لنصوصهم، حيث يختلط الناجز بغير الناجز والغث بالسمين. هكذا تتقاطع آلية الكتابة في بعض وجوهها مع آلية الطبخ، حيث يرغب المضيفون في تقديم الطعام جاهزا وأنيقا إلى ضيوفهم، ولكن أحدا منهم لا يرتاح لرؤية هؤلاء يتجولون في مطابخهم التي تعمها الفوضى. لا بل إن بعض الكتاب يشعرون بالارتباك والخجل لدى تلصص البعض على مسوداتهم كما لو أنهم يظهرون عراة أمامهم. يحضرني هنا ما حدث لغابرييل غارسيا ماركيز، الراحل قبل أسابيع قليلة، مع الكاتب الكولومبي الأكبر منه سنا دون رامون فينيس. فحين أطلع ماركيز الشاب فينيس على مسودة الفصل الأول من باكورته الروائية، قال له هذا الأخير: «أشكر لك احترامك لي، وسأكافئك عليه بنصيحة: لا تعرض على أحد أبدا مسودة ما زلت تكتبها».