محمد عبدالباري وعمودية الشعر

شتيوي الغيثي

كنت دائما ما أراهن على عودة الشعراء العرب إلى القصيدة العمودية بعد أن يستفيدوا من أشكال القصيدة الحديثة في بنيتها التصورية للشعر سواء لدى قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، بمعنى أن القصيدة العمودية سوف تستفيد من حداثة الشعر الجديد والبنى الفكرية والاستعارية الجديدة والرمزية في معانيها ومضامينها الشعرية مع الحفاظ على عموديتها ذات الشطرين العروضيين المتساويين (مفهوم عمودية الشعر عند النقاد القدامى تختلف عن مفهومها لدينا). شعراء التفعيلة الذين عادوا فكتبوا العمودية جاءت قصائدهم غاية في الروعة، وهذا أحد الإثباتات التي أحاول أن أذكر البعض بها.
كما أنني أراهن على عودة الشعر إلى الواجهة من جديد حتى بعد الاشتغالات السردية، وتحول بعض من الشعراء عن شعرهم إلى السرد.
هذه الرهانات أراها تتحقق شيئا فشيئا، على الرغم من الاضطرابات التي لحقت بالمشهد الشعري وتنقلاته من التفعيلي إلى النثري إلى السردي، عند الشاعر محمد عبدالباري السوداني/السعودي/الأردني -إذا سمح لي بتعديد هوياته- من خلال بنائه الشعري الخاص به وبرؤيته، حيث يعيد العمودية بشعرية جديدة تمزج بين الفلسفي والتاريخي مع كمية تناص شعري فائق الجودة.
تتضح قدرة عبدالباري الشعرية حينما يركز أكثر في سلك طريق العمودية -رغم كتابته للتفعيلة- بنفس جديد ورؤى شعرية جديدة كقصيدته (ما لم تقله زرقاء اليمامة) أو رؤيته للحالة البدوية الإنسانية في قصيدته (البدو) أو فلسفته اللونية في نظرته إلى سمار جلده الأفريقي في قصيدته (قمر أسود).
تلك الروح الشعرية التي تعيد لنا القصيدة العمودية برؤية جديدة أكثر عمقا تنصب نفسها بجدارة أمام نظرة الذين يقفون لها بالمرصاد الاستهجاني -إذا صح التعبير- باعتبارها شكلا شعريا مستهلكا حتى لم يعد البعض يهتم بأي قصيدة عمودية بسبب عموديتها.
محمد عبدالباري هذا الشاعر الشاب يضع الرؤى الإقصائية للشعر العمودي على محك التحدي من خلال فلسفته الشعرية الخاصة التي لا أتوقع أنها سوف تمر بسهولة حتى مع الزمن الذي لم يعد شعريا للأسف.