«الفراشة»
بانكو الجزء الثاني من الرواية الشهيرة
الجمعة / 22 / شعبان / 1435 هـ الجمعة 20 يونيو 2014 20:22
هنري شاريير. ترجمة سعيد بوكرامي
الفصل الأول (1)
«حظا سعيدا يا فرنسي! أنت حر منذ الآن. الوداع!»
يدير ظهره، ضابط سجن الأشغال الشاقة الإلدورادو، بعدما أشار بيده وانصرف.
هل كان عسيرا التخلص من القيود التي جرجرناها لأكثر من ثلاثة عشر عاما؟ خطونا بضع خطوات أنا وبيكولينو، الذي يلازمني على المنحدر المفضي إلى ضفة النهر، حيث أنزلنا الضابط وعاد إلى قرية الإلدورادو.
في بيتي القديم بإسبانيا وبالتحديد في سنة 1971 وخلال ليلة الثامن عشر من شهر غشت، رأيتني بدقة عجيبة أسير على الحصى، لم يكن صوت الضابط يتردد صداه على مسمعي فقط، بنفس الرصانة والوضوح، وإنما كنت أقوم بنفس الحركة التي كنت أقوم بها منذ عشرين عاما: كنت ألتفت إلى الوراء كالعادة.
منتصف الليل في الخارج، لكن بالنسبة لي -حسنا أنا وحدي- الأمر ليس كذلك، فالشمس تسطع، إنها العاشرة صباحا وأنا بصدد النظر إلى أجمل كتفين، وأحسن ظهر رأيته في حياتي. إنه ظهر سجاني وهو يبتعد كدلالة على نهاية الحراسة الأبدية نهارا وليلا، كل دقيقة وثانية، حراسة لم تتوقف منذ ثلاثة عشر عاما عن العمل والمراقبة.
إنها النظرة الأخيرة صوب النهر. النظرة الأخيرة من خلال كتفي سجاني، إلى جزيرة الأشغال الشاقة الفنزويلية، التي تتسيد وسط النهر. النظرة الأخيرة نحو ماض رهيب دام أكثر من ثلاثة عشر عاما ضربت خلالها وحقّرت وسحقت.
على متن المركب البخاري الذي يقذف مياها ساخنة في وجه الشمس المدارية تحاول الصور بسرعة أن تتشكل فوق النهر كما لو أنها تعرض على شاشة، لتستعيد مشاهد المشوار، الذي عبرته. أرفض مشاهدة هذا الفيلم. أشد بيكولينو من ذراعه مديرا ظهري لهذه الشاشة. في البداية سحبته بخطوات نشيطة بعدما نفضت كتفي لأتخلص نهائيا من وحل الماضي.
الحرية؟ لكن إلى أين؟ في هذا الجزء من العالم. في الهضاب العميقة لـ(لاغويان الفنزويلية). في القرية الإدارية الصغيرة المغروسة داخل الغابة العذراء، التي لا يمكن تخيل كثافتها الشديدة. في الجنوب الشرقي لفنزويلا، بمحاذاة الحدود البرازيلية. حيث المحيط الأخضر الهائل، تخترقه من هنا وهناك شلالات الوديان والأنهار العابرة، وحيث تنتشر، وتعيش مجموعات بشرية صغيرة، بكيفية وذهنية تنتمي إلى العهود الإنجيلية.
تتجمع هذه المجموعات حول الكنيسة حيث الراهب ليس في حاجة للموعظة عن الحب والبساطة فيما بين البشر، لأنهما يوجدان في وضعيتهما الطبيعية والدائمة. غالبا لا يضم أهالي هذه القرى إلى آخرين أكثر تشردا منهم إلا بواسطة شاحنة أو اثنتين، التي نتساءل عن كيفية وصولها إلى هنا. إذا نظرنا إلى طريقة عيشهم وتفكيرهم وتواددهم، فإن هؤلاء الناس البسطاء والشاعريون يعيشون كما عاش الأسلاف منذ قرون وقرون أنقياء من أوبئة الحضارة.
عندما أنهينا التسلق قبل التقدم صوب الهضبة حيث تبدأ قرية الإلدورادو، توقفنا طويلا وأكثر من اللازم، ثم واصلنا المسير. أصغي لتنفس بيكولينو وأنا بدوري أتنفس بعمق شديد، مستنشقا الهواء إلى أعماق أعماق رئتي، ثم أنفثه فيما بعد، ببطء كما لو أنني خشيت أن أحيا على عجل هذه الدقائق الرائعة. اللحظات الأولى من الحرية.
تنفتح الهضبة الكبرى أمامنا، على اليمين واليسار، دور صغيرة نظيفة، موشاة بالأزهار.
رمقنا أطفال، يعرفون من أين أتينا. وبدون تصرف معاد اقتربوا منا وساروا إلى جانبنا. يبدو أنهم يتفهمون ويقدرون اللحظة الحرجة التي نمر بها.
أمام البيت الأول بالتحديد، تبيع امرأة سوداء ضخمة القهوة وكعك الذرة: (arepas) فوق مائدة من الخشب:
- صباح الخير، سيدتي.
- صباح الخير أيها الرجلان! (Buenos dias, hombres)
- كأسا قهوة، من فضلك.
- (Si, se?ores.) حاضر سيدي.
ثم قدمت لنا البدينة الطيبة كأسي قهوة لذيذين، شربناهما واقفين، لأنها لا تملك كراسي.
- كم ثمنهما؟
- لا شيء.
- لماذا؟
- لأنه يسعدني أن أمنحكما القهوة الأولى بمناسبة حريتكما.
- شكرا، متى تحضر الحافلة؟
- اليوم عيد، لا توجد حافلات، لكن على الساعة الحادية عشرة ستأتي شاحنة.
- حسنا، شكرا.
تخرج من البيت فتاة صغيرة ذات عينين سوداوين وجسد خفيف السواد.
«ادخلا إلى البيت واجلسا» قالت بابتسامة عذبة.
دخلنا إلى البيت وجلسنا رفقة عشرات الأشخاص الذين انهمكوا في شرب الروم.
«لماذا يخرج صاحبك لسانه؟»
- إنه مريض.
- هل يمكننا أن نقوم بأي شي لمساعدته؟
- لا، لا شيء، إنه مشلول. يجب أن يدخل إلى المستشفى.
- من سيقدم له الطعام؟
- أنا.
- هل هو أخوك؟
- لا، صديقي.
- هل لديك مال، يا فرنسي؟
- القليل، كيف علمت أني فرنسي؟
- هنا، سريعا يعرف كل شيء. نعلم منذ الأمس أنهم سيطلقون سراحك. نعلم أيضا أنك هربت من جزيرة الشيطان، وأن الشرطة الفرنسية، تحاول القبض عليك، لتعيدك إلى السجن. لكنهم لن يعودوا للبحث عنك، هنا، لأن لا سلطة لهم، هنا، نحن من سيحميك.
- لماذا؟
- لأن...
- ماذا تعني؟
- خذ، اشرب جرعة من الروم، وناول صديقك أيضا.
تبدأ امرأة في الثلاثين من العمر بالحديث، ليست سوداء تماما، تسألني إن كنت متزوجا. لا. إذا كان والدي على قيد الحياة. أبي فقط.
«سيكون سعيدا إذا علم بوجودك في الفنزويلا»
- نعم، بالتأكيد.
رجل طويل أشقر بعينين واسعتين، يضيف بلطف.
« لم يعرف قريبي كيف يعبر لك عن مدى قدرتنا على حمايتك. حسنا أنا سأقول لك كيف. إذا كان الشخص مسعورا، فلا نستطيع فعل أي شيء. يمكن للمرء أن يتوب ويصبح طيبا إذا قدمنا له المساعدة. هو ذا السبب الذي سيجعلك محميا في فنزويلا: لأننا نحب الإنسان، وبمعونة الرب، الذي نؤمن به.
- ما هو السبب، في نظرك، الذي جعلني معتقلا في سجن الشيطان؟
- بالتأكيد، من أجل جرم كبير، كالقتل أو سرقة مهمة. بكم سنة حوكمت؟
- الأشغال الشاقة المؤبدة.
- هنا العقوبة القصوى هي ثلاثون عاما. كم قضيت؟
- ثلاثة عشر عاما، لكني حر.
- انس يا رجل، هذه الأشياء كلها. انس بأسرع وقت ممكن كل ما عانيت منه في السجون الفرنسية وهنا في افإلدورادو. انس كل شيء، لأنك إذا فكرت به كثيرا ستكون مضطرا إلى لوم الأشخاص المسؤولين وربما إلى كراهيتهم. النسيان وحده سيمكنك من محبتهم من جديد والعيش بينهم. تزوج في أقرب فرصة ممكنة. النساء في هذا البلد متوهجات والحب الذي ستمنحه لك المرأة التي ستختارها، بالسعادة والأبناء، سيساعدك لتنسى الآلام التي عشتها في الماضي.
ها هي الشاحنة. شكرت الناس الطيبين، وخرجت أشد بيكولينو من ذراعه. بداخلها يجلس عشرات المسافرين على المقاعد الطويلة خلف مقصورة الشاحنة. وبلطف ترك لنا هؤلاء الأشخاص البسطاء المقعدون الممتازون مقعدي المقصورة جوار السائق.
كنت أفكر في هذا الشعب الفنزويلي العجيب والشاحنة تتدحرج وتتقافز كمجنونة على الطريق المحفرة والمحدبة. لا صيادو خليج المنبوذون أو جنود الإلدورادو أو هذا الرجل البسيط الذي حدثني في بيت القش والطين تلقوا تعليما. ربما بالكاد يعرفون القراءة والكتابة. كيف إذن يمتلكون هذا الشعور وهذه الروح النبيلة المتسامحة مع الأشخاص المذنبين؟ كيف يجدون عبارات التشجيع الملائمة بلطف، مانحين المساعدة لسجناء الأشغال الشاقة بنصائحهم والقليل مما يملكون؟ كيف يمكن لمديري سجن الأشغال الشاقة في الإلدورادو وضباطه وهم متعلمون، أن يتوافقوا مع الشعب في نفس الأفكار: يجب منح فرصة لرجل ضال. كيفما كان هذا الشخص ومهما كان جرمه؟ لا يمكن أن يكون مصدر هذه الخصال من الأوروبيين، لا بد أن مأتاها من الهنود. في كل الأحوال يمكنك أن ترفع لهم قبعتك يا بابيون.
ها نحن قد وصلنا إلى كالاو. ساحة فسيحة، تضج بالموسيقى. نحن في الخامس من يوليو وهذا يصادف بالضبط عيدهم الوطني. حشد مهندم ودائما هذا العالم المداري مبرقش حيث تختلط الألوان: الأحمر، الأصفر، الأبيض، ولون الهنود النحاسي الذي ينبع من عرقهم ظاهرا في العيون المشدودة قليلا إلى الأعلى، وفي البشرة المصقولة بعض الشيء. نزلت وبيكوليني وكذلك بعض المسافرين إلى الرصيف. نزلت فتاة من الشاحنة واقتربت مني ثم قالت: «لا تدفع أجرا، دفع الحساب سلفا».
«حظا سعيدا يا فرنسي! أنت حر منذ الآن. الوداع!»
يدير ظهره، ضابط سجن الأشغال الشاقة الإلدورادو، بعدما أشار بيده وانصرف.
هل كان عسيرا التخلص من القيود التي جرجرناها لأكثر من ثلاثة عشر عاما؟ خطونا بضع خطوات أنا وبيكولينو، الذي يلازمني على المنحدر المفضي إلى ضفة النهر، حيث أنزلنا الضابط وعاد إلى قرية الإلدورادو.
في بيتي القديم بإسبانيا وبالتحديد في سنة 1971 وخلال ليلة الثامن عشر من شهر غشت، رأيتني بدقة عجيبة أسير على الحصى، لم يكن صوت الضابط يتردد صداه على مسمعي فقط، بنفس الرصانة والوضوح، وإنما كنت أقوم بنفس الحركة التي كنت أقوم بها منذ عشرين عاما: كنت ألتفت إلى الوراء كالعادة.
منتصف الليل في الخارج، لكن بالنسبة لي -حسنا أنا وحدي- الأمر ليس كذلك، فالشمس تسطع، إنها العاشرة صباحا وأنا بصدد النظر إلى أجمل كتفين، وأحسن ظهر رأيته في حياتي. إنه ظهر سجاني وهو يبتعد كدلالة على نهاية الحراسة الأبدية نهارا وليلا، كل دقيقة وثانية، حراسة لم تتوقف منذ ثلاثة عشر عاما عن العمل والمراقبة.
إنها النظرة الأخيرة صوب النهر. النظرة الأخيرة من خلال كتفي سجاني، إلى جزيرة الأشغال الشاقة الفنزويلية، التي تتسيد وسط النهر. النظرة الأخيرة نحو ماض رهيب دام أكثر من ثلاثة عشر عاما ضربت خلالها وحقّرت وسحقت.
على متن المركب البخاري الذي يقذف مياها ساخنة في وجه الشمس المدارية تحاول الصور بسرعة أن تتشكل فوق النهر كما لو أنها تعرض على شاشة، لتستعيد مشاهد المشوار، الذي عبرته. أرفض مشاهدة هذا الفيلم. أشد بيكولينو من ذراعه مديرا ظهري لهذه الشاشة. في البداية سحبته بخطوات نشيطة بعدما نفضت كتفي لأتخلص نهائيا من وحل الماضي.
الحرية؟ لكن إلى أين؟ في هذا الجزء من العالم. في الهضاب العميقة لـ(لاغويان الفنزويلية). في القرية الإدارية الصغيرة المغروسة داخل الغابة العذراء، التي لا يمكن تخيل كثافتها الشديدة. في الجنوب الشرقي لفنزويلا، بمحاذاة الحدود البرازيلية. حيث المحيط الأخضر الهائل، تخترقه من هنا وهناك شلالات الوديان والأنهار العابرة، وحيث تنتشر، وتعيش مجموعات بشرية صغيرة، بكيفية وذهنية تنتمي إلى العهود الإنجيلية.
تتجمع هذه المجموعات حول الكنيسة حيث الراهب ليس في حاجة للموعظة عن الحب والبساطة فيما بين البشر، لأنهما يوجدان في وضعيتهما الطبيعية والدائمة. غالبا لا يضم أهالي هذه القرى إلى آخرين أكثر تشردا منهم إلا بواسطة شاحنة أو اثنتين، التي نتساءل عن كيفية وصولها إلى هنا. إذا نظرنا إلى طريقة عيشهم وتفكيرهم وتواددهم، فإن هؤلاء الناس البسطاء والشاعريون يعيشون كما عاش الأسلاف منذ قرون وقرون أنقياء من أوبئة الحضارة.
عندما أنهينا التسلق قبل التقدم صوب الهضبة حيث تبدأ قرية الإلدورادو، توقفنا طويلا وأكثر من اللازم، ثم واصلنا المسير. أصغي لتنفس بيكولينو وأنا بدوري أتنفس بعمق شديد، مستنشقا الهواء إلى أعماق أعماق رئتي، ثم أنفثه فيما بعد، ببطء كما لو أنني خشيت أن أحيا على عجل هذه الدقائق الرائعة. اللحظات الأولى من الحرية.
تنفتح الهضبة الكبرى أمامنا، على اليمين واليسار، دور صغيرة نظيفة، موشاة بالأزهار.
رمقنا أطفال، يعرفون من أين أتينا. وبدون تصرف معاد اقتربوا منا وساروا إلى جانبنا. يبدو أنهم يتفهمون ويقدرون اللحظة الحرجة التي نمر بها.
أمام البيت الأول بالتحديد، تبيع امرأة سوداء ضخمة القهوة وكعك الذرة: (arepas) فوق مائدة من الخشب:
- صباح الخير، سيدتي.
- صباح الخير أيها الرجلان! (Buenos dias, hombres)
- كأسا قهوة، من فضلك.
- (Si, se?ores.) حاضر سيدي.
ثم قدمت لنا البدينة الطيبة كأسي قهوة لذيذين، شربناهما واقفين، لأنها لا تملك كراسي.
- كم ثمنهما؟
- لا شيء.
- لماذا؟
- لأنه يسعدني أن أمنحكما القهوة الأولى بمناسبة حريتكما.
- شكرا، متى تحضر الحافلة؟
- اليوم عيد، لا توجد حافلات، لكن على الساعة الحادية عشرة ستأتي شاحنة.
- حسنا، شكرا.
تخرج من البيت فتاة صغيرة ذات عينين سوداوين وجسد خفيف السواد.
«ادخلا إلى البيت واجلسا» قالت بابتسامة عذبة.
دخلنا إلى البيت وجلسنا رفقة عشرات الأشخاص الذين انهمكوا في شرب الروم.
«لماذا يخرج صاحبك لسانه؟»
- إنه مريض.
- هل يمكننا أن نقوم بأي شي لمساعدته؟
- لا، لا شيء، إنه مشلول. يجب أن يدخل إلى المستشفى.
- من سيقدم له الطعام؟
- أنا.
- هل هو أخوك؟
- لا، صديقي.
- هل لديك مال، يا فرنسي؟
- القليل، كيف علمت أني فرنسي؟
- هنا، سريعا يعرف كل شيء. نعلم منذ الأمس أنهم سيطلقون سراحك. نعلم أيضا أنك هربت من جزيرة الشيطان، وأن الشرطة الفرنسية، تحاول القبض عليك، لتعيدك إلى السجن. لكنهم لن يعودوا للبحث عنك، هنا، لأن لا سلطة لهم، هنا، نحن من سيحميك.
- لماذا؟
- لأن...
- ماذا تعني؟
- خذ، اشرب جرعة من الروم، وناول صديقك أيضا.
تبدأ امرأة في الثلاثين من العمر بالحديث، ليست سوداء تماما، تسألني إن كنت متزوجا. لا. إذا كان والدي على قيد الحياة. أبي فقط.
«سيكون سعيدا إذا علم بوجودك في الفنزويلا»
- نعم، بالتأكيد.
رجل طويل أشقر بعينين واسعتين، يضيف بلطف.
« لم يعرف قريبي كيف يعبر لك عن مدى قدرتنا على حمايتك. حسنا أنا سأقول لك كيف. إذا كان الشخص مسعورا، فلا نستطيع فعل أي شيء. يمكن للمرء أن يتوب ويصبح طيبا إذا قدمنا له المساعدة. هو ذا السبب الذي سيجعلك محميا في فنزويلا: لأننا نحب الإنسان، وبمعونة الرب، الذي نؤمن به.
- ما هو السبب، في نظرك، الذي جعلني معتقلا في سجن الشيطان؟
- بالتأكيد، من أجل جرم كبير، كالقتل أو سرقة مهمة. بكم سنة حوكمت؟
- الأشغال الشاقة المؤبدة.
- هنا العقوبة القصوى هي ثلاثون عاما. كم قضيت؟
- ثلاثة عشر عاما، لكني حر.
- انس يا رجل، هذه الأشياء كلها. انس بأسرع وقت ممكن كل ما عانيت منه في السجون الفرنسية وهنا في افإلدورادو. انس كل شيء، لأنك إذا فكرت به كثيرا ستكون مضطرا إلى لوم الأشخاص المسؤولين وربما إلى كراهيتهم. النسيان وحده سيمكنك من محبتهم من جديد والعيش بينهم. تزوج في أقرب فرصة ممكنة. النساء في هذا البلد متوهجات والحب الذي ستمنحه لك المرأة التي ستختارها، بالسعادة والأبناء، سيساعدك لتنسى الآلام التي عشتها في الماضي.
ها هي الشاحنة. شكرت الناس الطيبين، وخرجت أشد بيكولينو من ذراعه. بداخلها يجلس عشرات المسافرين على المقاعد الطويلة خلف مقصورة الشاحنة. وبلطف ترك لنا هؤلاء الأشخاص البسطاء المقعدون الممتازون مقعدي المقصورة جوار السائق.
كنت أفكر في هذا الشعب الفنزويلي العجيب والشاحنة تتدحرج وتتقافز كمجنونة على الطريق المحفرة والمحدبة. لا صيادو خليج المنبوذون أو جنود الإلدورادو أو هذا الرجل البسيط الذي حدثني في بيت القش والطين تلقوا تعليما. ربما بالكاد يعرفون القراءة والكتابة. كيف إذن يمتلكون هذا الشعور وهذه الروح النبيلة المتسامحة مع الأشخاص المذنبين؟ كيف يجدون عبارات التشجيع الملائمة بلطف، مانحين المساعدة لسجناء الأشغال الشاقة بنصائحهم والقليل مما يملكون؟ كيف يمكن لمديري سجن الأشغال الشاقة في الإلدورادو وضباطه وهم متعلمون، أن يتوافقوا مع الشعب في نفس الأفكار: يجب منح فرصة لرجل ضال. كيفما كان هذا الشخص ومهما كان جرمه؟ لا يمكن أن يكون مصدر هذه الخصال من الأوروبيين، لا بد أن مأتاها من الهنود. في كل الأحوال يمكنك أن ترفع لهم قبعتك يا بابيون.
ها نحن قد وصلنا إلى كالاو. ساحة فسيحة، تضج بالموسيقى. نحن في الخامس من يوليو وهذا يصادف بالضبط عيدهم الوطني. حشد مهندم ودائما هذا العالم المداري مبرقش حيث تختلط الألوان: الأحمر، الأصفر، الأبيض، ولون الهنود النحاسي الذي ينبع من عرقهم ظاهرا في العيون المشدودة قليلا إلى الأعلى، وفي البشرة المصقولة بعض الشيء. نزلت وبيكوليني وكذلك بعض المسافرين إلى الرصيف. نزلت فتاة من الشاحنة واقتربت مني ثم قالت: «لا تدفع أجرا، دفع الحساب سلفا».