عاصي الرحباني وصورة الوطن الفردوسي
الجمعة / 29 / شعبان / 1435 هـ الجمعة 27 يونيو 2014 20:11
شوقي بزيع
بعد ثمانية وعشرين عاما على غيابه، يبدو الفنان اللبناني عاصي الرحباني أكثر حضورا وتألقا من مئات الموسيقيين وأدعياء الفن الذين أصابوا البيئة العربية الراهنة بقدر من التلوث السمعي يصعب التخلص من آثاره وتبعاته. فعاصي الذي رحل في مثل هذه الأيام بالذات لم يكن مجرد عابر سبيل في تاريخ الموسيقى والأغنية العربيتين بل كان العلامة الفارقة التي نقلت الفن العربي من طور إلى طور، والموهبة «الوحشية» التي لم تصب صاحبها بالطمأنينة والرضا عن النفس، بل دفعته إلى التسابق مع أحلامه في غير ساحة ومضمار، وإلى تنكب المجاهيل التي لا يعود من براثنها أحد، ومع ذلك فإن المرء ليشعر بالحيرة إزاء تلك الثنائية الاستثنائية التي شكلها عاصي مع أخيه منصور، الذي يصغره بسنتين لا أكثر، ضاربين عرض الحائط بالطبيعة الفردانية للفن وبحاجة الأنا الإبداعية إلى كامل نصيبها من التضخم والنزق واللمعان النجومي، وقد أفضى الارتباط الزوجي بين عاصي وفيروز في منتصف القرن الفائت إلى توسيع هذه الثنائية وتحويلها إلى ثلاثية فنية، أعطت العرب بعض أروع نتاجاتهم وروائعهم الإنسانية. ليس للمرء هنا أن يقحم نفسه في مناطق التشابك الملتبسة بين عاصي ومنصور، حيث راح الكثيرون ينحازون إلى الأول على حساب الثاني، الذي كان ذنبه الوحيد أنه عاش سنوات طويلة بعد رحيل أخيه، ولكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى الأبعاد الفلسفية والرؤيوية لشخصية عاصي، وإلى نزوعه الميتافيزيقي الذي تبدى جليا في نصوص أغنياته ومسرحياته الغنائية ولفتاته الشعرية العميقة، وفي مقارنة سريعة بين أعمال الرحبانيين المشتركة مثل «هالة والملك» و«الشخص» و«المحطة» وغيرها، وبين الأعمال التي انفرد بها منصور فيما بعد، يتضح للمتأمل المتابع أن الأسئلة الوجودية الكبرى التي توافرت في الأعمال الأولى سرعان ما أخلت مكانها للمشهدية الجمالية والإبهار الاستعراضي، دون أن تفقد بالطبع بعض لمعاتها الرحبانية المفاجئة. على أن المسألة الأهم تكمن في قدرة الرحبانيين على إخراج الحياة الفنية العربية من ميوعتها العاطفية المفرطة ومن فقرها الموسيقي والشعري المدقع، حتى إذا اكتمل هذا الثنائي الفذ بصوت فيروز تمكن من تأثيث حيواتنا التي أثخنتها الهزائم بكل ما يلزمها من شحنات الفرح وشهوة الحياة وافتراع الأحلام. العالم في الفن الرحباني ذو حضور أثيري تمخره الطفولة من ضفة إلى ضفة ويمده الشعر بأسباب النقاء والتفتح الرومنسي، ويتكفل الحب بقطع المسافة المتبقية للوصول إلى يوتوبيا التهيؤات، وفي بلد متناهب الجمال ومحكوم بالتمزق كلبنان، سعى عاصي ومنصور إلى صياغة الوطن البديل المصنوع من القصائد والرغبات وموسيقى الأحلام وحتى في المسرحيات الغنائية التي تمجد البطولة الملحمية أو تعرض لبطش الحكام ثمة نزوع إلى مصالحة تاريخية بين الحكام والمحكومين، وبين الفقراء والأغنياء، كما بين الخير والشر، بما يعكس تبرم الرحبانيين بالصراعات الطبقية الدموية ودعوتهما الملحة إلى حلول تصالحية طوباوية توفر سبل الوئام بين البشر، لم يتوافق حساب حقل عاصي الرحباني مع حساب البيدر اللبناني الذي كانت نذر انفجاره جلية في الأفق، ولم تكن الجلطة التي قصمت دماغه في الصميم سوى التعبير الرمزي المأساوي عن الصدام المروع بين صورة لبنان في مخيلته وبين صورة الواقع اللبناني الآهل بالفظاعات. وإذا كتب له أن ينجو من أزمته الصحية الخطيرة فإن تردداتها الكارثية لم تمكنه من استعادة البروق التي انطفأت في رأسه، والتي انطفأ بصيصها الأخير خلال عقد ونصف من الصراع مع وحوش الظلام الضارية.