الصوم في دلالاته الأعمق

شوقي بزيع

يتعامل الكثيرون مع الصوم بوصفه مجرد فريضة دينية ينبغي الالتزام بها، أو بوصفه طقسا من طقوس العبادة لا تتعدى دلالاته الامتناع عن الطعام والشراب وسائر الملذات الأخرى. والحقيقة أن أحدا من هؤلاء لا ينبغي أن يلام على قراءته السطحية للصوم ما دامت لم تتوفر له سبل التعمق في الفقه الديني واكتناه الأبعاد الإنسانية والروحية لأحكام الدين وسننه وفرائضه. فإسلام العامة يقوم في الأعم الأغلب على الطاعة والتسليم ونقاء السريرة، لا على التفكر والتمحيص واستقراء الدلالات. ولهذا السبب بالذات دعا الفيلسوف الشهير ابن رشد إلى ترك العامة من الناس تعيش الإسلام وفق منظورها الإيماني العفوي ما دامت، بحكم عدم امتلاكها لناصية الفكر الخلاق، غير قادرة على تمثل الجوهر الأسمى للحقيقة الدينية. إن الصوم في الإسلام ليس مجرد تعذيب مازوشي للذات، أو دعوة لقهر الجسد وتعنيفه وإماتته، كما هو حاصل في بعض الديانات والمذاهب الأخرى. فالإسلام منذ نشأته اشتغل على إقامة نوع من التوازن الخلاق بين الجسد والروح، بين الرغبة والعفة، وبين الدنيوي والأخروي. والصوم تبعا لذلك لم يفرض على المسلمين طيلة أيام السنة، بل تم حصره في شهر واحد لكي يتاح للمسلمين من خلاله أن يكبحوا جماح أجسادهم المفرطة في انكبابها على اللذائذ الدنيوية، وأن يختبروا في الآن ذاته قدرتهم على الصبر والجلد واحتمال العطش والجوع. وهم حين يفعلون ذلك يحققون شرط وجودهم الإنساني المتصل بمجاهدة النفس ومغالبتها والنأي بها عن جانبها السفلي والغرائزي. هذا الاختبار القاسي للنفس يوفر للصائم لذة فريدة من نوعها هي لذة الامتناع عن كل ما يتصل بمتطلبات الجسد ونزواته المختلفة، وإتاحة الفرصة أمام الروح المغيبة خلف حائط النزوات السميك لكي تأخذ طريقها إلى واجهة المشهد. إن التخفف من ثقل الجسد المتخم بأعبائه الحسية يمنح النشاط الروحي خفة موازية ويجعلنا قادرين على الالتقاء بذواتنا فوق أرض معبدة بالطمأنينة والفرح الداخلي. سيكون من نافل القول بالطبع الحديث المستعاد عن أن الصيام وحده هو الذي يمكننا من التعاطف الواقعي والملموس مع فقراء الأرض وجياعها ومن التلمس العملي لا النظري لمكابداتهم المضنية، كما أن من نافل القول أيضا الإشارة إلى المنافع الصحية الكثيرة للصوم، ولكن ما تنبغي الإشارة إليه هو أن الصوم يزيل كافة الفوارق الطبقية والعرقية والثقافية بين الصائمين الذين يتوحدون في ترويض الجسد وتقنين ملذاته طيلة ساعات الإمساك، فيما يتشاركون لحظة الإفطار ذلك الإحساس العارم بالفرح والاغتباط ومكافأة الذات على جهادها المضني. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المجاهدة بالصوم لا تنحصر بالطعام والشراب وحدهما، بل تشمل فيما تشمله حسن الطوية والتسامح بين البشر والترفع عن الضغائن وكل ما يتصل بصيام القلب والعقل واللسان، أمكننا أن ندرك معنى قول مريم في الآية الكريمة «إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم أنسيا»، حيث الصمت ينوب عن اللسان في الوصول إلى البتولية الكاملة والخشوع المطلق. بهذا المعنى يتيح الصوم للبشر أن يقاربوا الحقيقة الإنسانية في أصفى تمثلاتها، حيث تنفتح الأبواب على مصاريعها بين السماء والأرض، وحيث تبحث السرائر العطشى عن ارتوائها في مياه النقاء الأسمى والتهجد الطهراني.