المثقف وخطاب التبرير

شتيوي الغيثي

الأحداث في الواقع المحيط تأتي وفق سياق ثقافي أو اجتماعي أو تاريخي، بحيث يمكن من خلاله الوقوف على بعض معطيات الحدث، وأشدد على كلمة بعض لأن المعطيات دائما ما كانت خاضعة هي كذلك إلى السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية المنتجة للحدث نفسه أو لبعض معطياته. من هنا يصعب الوقوف على الحقيقة كتجل واضح لها في الخطابات جميعها ولعل اللغة هي المعطى الأكثر والأقرب للإنسان لتسييل الحقيقة فيها، لكنها غالبا ما مارست نوعا من التضليل اللغوي والثقافي لتصنع الوهم ولتختفي معطيات الحقيقة عن الواقع.
وبحكم أن المثقف (الإسلامي والليبرالي والقومي) هو أحد أهم مالكي السياق اللغوي وأحد المشتغلين عليه، فإنه يمكن له أن يمارس دوره في عملية خلق معان متوالدة وإن كانت مخالفة للحقيقة من خلال عملية تأوليلة متواصلة لكل حدث عادي أو حدث رمزي فتظهر المعاني على خلاف ما يمكن أن يتصور الفرد من أول وهلة، وتصل المسألة أحيانا إلى تبرير كل سلوك يمارسه الفرد أو جماعة أو أي سلطة دينية أو اجتماعية أو وطنية.
أقول ذلك وفي ذهني الكثير من عمليات التبرير التي يمارسها الكثير من الناس بمختلف أطيافهم وخطاباتهم الثقافية، فما إن يفعل شيخ ما فعلا حتى يبدأ التبرير والتأويل على مصراعيه، والحال كذلك في الخطاب الثقافي للتيارات الأخرى قومية أو ليبرالية، حيث تنشأ عمليات التبرير من محاولات خلق تصورات وتأويلات وأوهام تباعد بين الأمر وحقيقته فضلا عن التبريرات للسلطة أيا كانت مرجعيتها: دينية أو وطنية أو غيرهما.
بعد القصف الحاصل على غزة خلال الأيام الماضية ظهرت بعض التبريرات التي تضع اللوم على جانب حماس أكثر من إسرائيل، والضحية كان الشعب بعيدا عن طرفي النزاع، والتبرير لإسرائيل في ضرب عزة كان غريبا ومستنكرا إلا أنه كان حاصلا من قبل بعض الناس حتى من بعض المنتمين إلى الخطاب الديني. بل وصل الحال عند بعض المثقفين أن هناك من برر وجود إسرائيل بمجملها على الأراضي الفلسطينية.
لا أناقش هنا الحيثيات السياسية لوجود أي طرف أو اعتدائه على الآخر، بقدر مناقشة قدرة الخطابات جميعها على التبرير وكيف أنها تصنع الوهم إلى جانب الحقيقة، واللغة ومالكوها من جميع الخطابات عامل كبير في صياغة التصورات في أذهان الناس وكلما كانت السلطة (بمفهومها الواسع) منحازة إلى خطاب معين فإنها تمارس كافة عمليات التغييب الفكري تجاه الأفراد لتصنعهم كما تصنع العجينة لتبني خطابها ولغتها.