الوقوف عند «سرَّة» العالم

شوقي بزيع

منذ احتلالها من قبل الصهاينة قبل ما يقرب العقود السبعة بدت فلسطين وكأنها جنة العرب الضائعة، أو أندلسهم المفقودة التي انزلق أبو عبدالله الصغير عن صخرتها الأخيرة ولم يتبق له منها سوى التفاتة إلى الخلف مثلومة بالغصات. صحيح أن الهزائم المتعاقبة التي تلت النكبة لم تفض إلى محوها من الذاكرة الجمعية العربية ولكن فلسطين تحولت مع الزمن إلى متخيل بعيد المنال، كما إلى مساحة لابتكار الأساطير وكتابة القصائد والروايات وترديد الأهازيج والأغاني. وبقدر ما كانت أرض المعراج النبوي تدخل في نسيج اللغة والاستعارة كانت تبتعد بالمقابل على مستوى الواقع الجغرافي المحسوس. ولولا أرتال الشهداء الذين سقطوا عبر السنين لكي نحتفظ بها حية في القلب والذاكرة لما بقي لنا من فلسطين سوى اسمها ونظراتنا اليائسة إلى موقعها على الخارطة. لا أعرف على وجه التحديد عدد العرب الذين رأوا فلسطين بأم العين، مستثنيا بالطبع أولئك الذين يقطنون المناطق المحاذية لها فيما يعرف بدول «الطوق». ولكن ما أعرفه هو أن المشاعر المتولدة عن رؤيتها بالعين المجردة أمر شبيه باندلاع البراكين الصغيرة في داخل الروح، حيث يختلط فرح الرؤية بجمر الفقدان، ونشوة البصر بتبكيت الذات وهول الخسارة الفادح. ورغم أنني ظفرت غير مرة برؤية بعض من تضاريس فلسطين المترعة بالجمال وتدرجات الألوان من خلال القرى اللصيقة بها في الجنوب اللبناني، فإن المشهد الذي تسنت لي رؤيته خلال وقوفي على أطلال «أم قيس» في الشمال الأردني قبل أيام لا يوازيه مشهد آخر على مستوى الجمال الطبيعي المدهش، أو على مستوى الترجيعات المتصلة بأعماق التاريخ. فمن فوق خرائب القرية التي تعود إلى العهد الروماني تنكشف لك فجأة بحيرة طبرية وهضبة الجولان التي تدفعك تضاريسها المنيعة إلى الشعور بالدهشة المرة إزاء سقوطها «المشبوه» في حزيران 1967. وعند أقصى الشمال يمكن لك أن ترى الأطراف الأخيرة للجنوب اللبناني. وتحت قدميك تماما يجري نهر اليرموك الشهير الذي وقعت بالقرب منه المعارك الثلاث الفاصلة التي غيرت وجه العالم، أعني بها: اليرموك وحطين وعين جالوت. ثمة في تلك الوقفة المؤثرة شيء لا تمكن مقاربته بغير الدموع، وهو ما دفع رفيق الرحلة الفنان أحمد قعبور إلى ترك العنان لدموعه ومشاعره الجياشة. وثمة في تلك الوقفة ما يجعلك تشعر أنك تطل على «سرة» العالم وأكثر بقاعه سحرا ونضارة، وما يفسر لك تسابق الفاتحين نحوها، وتدافعهم بالمناكب والرماح للسيطرة على أكثر بقاع الأرض ازدحاما بالأنبياء. هناك يكفي أن تلقي حجرا واحدا لتشج به رأس الهزيمة، ويكفي أن تطلق صرخة عاتية لتصم آذان الغزاة الغاصبين. وهناك تشعر أن فلسطين قريبة بما يكفي لتناولها بالقلوب والأهداب. ورغم قتامة الواقع وظلامية المرحلة فإن تلك الأرض الساحرة عائدة إلى أهلها لا محالة، وأن ذينك الانحرافين النافرين في التاريخ والجغرافيا لا بد أن يتم تصحيح مساريهما ولو بعد حين.