الحياة في درجة الصفر
الجمعة / 17 / ذو القعدة / 1435 هـ الجمعة 12 سبتمبر 2014 19:01
شوقي بزيع
لم أجد تشخيصا ملائما للوضع العربي الراهن أفضل من العنوان المعدل قليلا لكتاب الفيلسوف والباحث الفرنسي «رولان بارت»: «الكتابة في درجة الصفر» أو «الدرجة صفر للكتابة»، وفق ترجمة أخرى. ذلك أن الفوضى المسلحة بالعنف والفظاظة تكاد تعصف بكل ما حسبناه ثابتا وراسخا على كافة الأصعدة السياسية والثقافية والأخلاقية. كأن أكوام الرماد التي صنعتها أنظمة الطغيان والعسف تحت مسميات تقدمية وقومية وثورية كاذبة سرعان ما أخلت أماكنها للنيران المعتملة في الأسفل، والتي لم تعد ألسنتها المنفلتة من عقالها تميز بين ما تنبغي إزالته وما يتوجب الحفاظ عليه. لم يحدث منذ زمن طويل أن وضعنا قبالة مرايانا الحقيقية كما هو حاصل الآن. فقد تبين لنا أن الاستبداد ليس قشرة نفوسنا الظاهرة التي ستنكشف إزالتها عن النواة الأنقى لطهرنا المضمر، بل هو حالة متأصلة في دواخلنا بحيث إن الوحش الذي نقتله يسلم مقاليد أنيابه لوحش آخر ليس أقل فتكا وضراوة. هكذا اختلط حابل السياسة بنابل الإرهاب الظلامي التكفيري، وبات المتاح أمامنا هو الاختيار بين الموت بكواتم الصوت أو الموت ذبحا بقطع الرؤوس، بين رصاصة العدو ورصاصة الحليف. وهو ما دفع الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور إلى أن يصرخ قبل سنوات «ما الفرق بين رصاصة ورصاصة ما دامتا تصلان رأسي». يكفي أن نلتفت من حولنا الآن لكي نرى كيانات سياسية تترنح على حد السكين وأوطانا تدافع عما تبقى من وحدتها وحدودا تتراجع وتتقدم خارج كل منطق.
لا يملك أحد أن يوقف شلالات الدماء النازفة، أو أن يمنع الواقع من التشظي، أو أن يحدس بتباشير فجر قادم. قد تكون النقطة الوحيدة المضيئة في هذا المشهد متمثلة في وصولنا إلى القاع الأخير للهاوية، حيث لا مجال بعد إلا للارتفاع ولو ببطء عن الحضيض. فالظلام بشقيه الاستبدادي والتكفيري يكاد يستنفد آخر أوراقه تاركا لخيوط النور الواهية أن تتجمع في مرمى البصر. والمأساة إذ تصل إلى منتهاها تمكننا من تأسيس سعادتنا المقبلة على الصخرة الصلدة للآلام. وقد سبق للشاعر الراحل سميح القاسم أن حدس بظهور «طائر الرعد» الحامل تباشير الخلاص لأننا بلغنا قمة الموت، على حد قوله. وبالعودة إلى رولان بارت نفسه فقد عبر عن مأزق الكتابة في أزمنة الحرب بقوله «الكتابة في زمن الرعب تحيلنا إلى فعل الدم المنتشر، وبأنها تبلورت كي تجيب على مأساة معاشة، تلك المتعلقة بالمقصلة اليومية». لذلك فإن الفيلسوف الشهير يدعو إلى كتابة البياض البدئي التي تتخلى عن علامات التاريخ الظاهرة وليس لها أن تخبر الخارج عن هويتها. ومع أن بارت كان يعلم في قرارته أن هذه الدعوة المثالية متعذرة التحقق فقد كانت دعوته بمثابة صرخة احتجاج عاتية على رعب الحرب ورغبة صادقة في إعادة تشكيل العالم واللغة على حد سواء. ولعل «درجة الصفر» هذه هي ما ينسحب على واقعنا الذي يلامس القعر في قتامته، حيث سيتاح «للخراب الجميل» أن يستودع الأرض العربية بذورها المقبلة وبدائلها الخلاقة.
لا يملك أحد أن يوقف شلالات الدماء النازفة، أو أن يمنع الواقع من التشظي، أو أن يحدس بتباشير فجر قادم. قد تكون النقطة الوحيدة المضيئة في هذا المشهد متمثلة في وصولنا إلى القاع الأخير للهاوية، حيث لا مجال بعد إلا للارتفاع ولو ببطء عن الحضيض. فالظلام بشقيه الاستبدادي والتكفيري يكاد يستنفد آخر أوراقه تاركا لخيوط النور الواهية أن تتجمع في مرمى البصر. والمأساة إذ تصل إلى منتهاها تمكننا من تأسيس سعادتنا المقبلة على الصخرة الصلدة للآلام. وقد سبق للشاعر الراحل سميح القاسم أن حدس بظهور «طائر الرعد» الحامل تباشير الخلاص لأننا بلغنا قمة الموت، على حد قوله. وبالعودة إلى رولان بارت نفسه فقد عبر عن مأزق الكتابة في أزمنة الحرب بقوله «الكتابة في زمن الرعب تحيلنا إلى فعل الدم المنتشر، وبأنها تبلورت كي تجيب على مأساة معاشة، تلك المتعلقة بالمقصلة اليومية». لذلك فإن الفيلسوف الشهير يدعو إلى كتابة البياض البدئي التي تتخلى عن علامات التاريخ الظاهرة وليس لها أن تخبر الخارج عن هويتها. ومع أن بارت كان يعلم في قرارته أن هذه الدعوة المثالية متعذرة التحقق فقد كانت دعوته بمثابة صرخة احتجاج عاتية على رعب الحرب ورغبة صادقة في إعادة تشكيل العالم واللغة على حد سواء. ولعل «درجة الصفر» هذه هي ما ينسحب على واقعنا الذي يلامس القعر في قتامته، حيث سيتاح «للخراب الجميل» أن يستودع الأرض العربية بذورها المقبلة وبدائلها الخلاقة.