صناعة الموت وصناعة الحياة

حمود أبو طالب

ليس مهما أن نبحث عن الرقم الدقيق للبشر الذين انصرمت أعمارهم في العام الماضي بفعل وحشية وحماقات وجنون بشر آخرين، لن نتوصل إلى هذا الرقم؛ لأن هناك آلاف الأشخاص يموتون دون أن يدري عنهم أحد؛ لأنهم بعيدون عن ساحات الموت التي تركز عليها وسائل الإعلام ويهتم بها العالم. الجوع والمرض وكل أشكال البؤس تحصد بشرا منسيين لم يعد لهم اهتمام كما هو للذين يحملون السلاح في وجوه بعضهم أو يقصفون بعضهم البعض بكل أدوات الموت والدمار. العام الماضي كان عام العنف الاستثنائي والموت المجاني الذي تدعمه صناعة السلاح التي لا تستمر وتربح الأموال الطائلة إلا بإسالة الدماء وإزهاق الأرواح.
ورغم كل ذلك السواد الذي توشحت به أيام العام الماضي، والقسوة والشراسة التي مارسها البشر في حق الإنسانية، هناك بشر آخرون ما زالوا يقدسون الحياة ويسخرون أنفسهم لجعلها أفضل، ما زالوا يؤمنون بأن قضيتهم تخفيف آلام البشر ومتاعبهم وأوجاعهم، هؤلاء تبرز بعض أخبارهم في حينها، لكن إنجازاتهم تنسى في دوامة التوحش وصخب آلة الموت. في مقابل مصانع الموت كانت هناك معامل لصنع الحياة، وجعلها أجمل أو أقل قبحا. وبنظرة سريعة إلى بعض أبرز ما تحقق في هذا الجانب خلال العام الماضي، سنجد ــ على سبيل المثال لا الحصر:
إنتاج واحد من أنجع العقارات ضد التهاب الكبد الفيروسي C الذي عانت منه البشرية طويلا، وبنسبة نجاح مرتفعة وغير مسبوقة. التوصل إلى فحص بسيط للدم باستطاعته تحديد ما لا يقل عن 14 نوعا من الأورام وبدقة عالية. تطور هائل في علاج الشلل الدماغي. فتح كبير في تخفيض نسبة وفيات القلب والأوعية الدموية. نجاح ولادة من رحم مزروع بعد تجارب وأبحاث استغرقت سنوات عديدة. ولو راجعنا الدوريات الطبية المتخصصة، لوجدنا إنجازات هائلة أخرى لا يعرف عنها سوى المهتمين بها من ذوي الاختصاص.
هذا هو الجانب المضيء للحياة التي أصبح الظلام شعارها الأبرز. الطب، الفن، الموسيقى، الإبداع الأدبي، الاختراعات العلمية التي تجعل العيش على هذا الكوكب أقل تعاسة. هذا هو الجانب الذي يجب أن نعتبره عزاء البشرية وتعويضها مقابل ما ينتجه ويمارسه المتخصصون في فنائها.