التوظيف الأمثل للفوائض لخدمة الاقتصاد الوطني

علي حسن التواتي

لا بد من الاتفاق مبدئيا على أن أهم اعتبار في التعامل مع الفوائض المالية للدولة والفرد هو تجنيبها المخاطر العالية بالطرق والأساليب العلمية وأدواتها التي أصبحت أكثر تقدما من أي وقت مضى.
وفي الوقت نفسه، أصبح الاحتفاظ بالفوائض والثروات وتنميتها لا يقل أهمية عن الحصول عليها، سواء للدول وللأفراد. فالفرد لم يعد يحتفظ بفوائضه المالية تحت الوسادة حتى وإن أراد؛ لأنها معرضة للتآكل في حالة الجمود بفعل عوامل أخرى كثيرة. ولم يعد بإمكان الفرد الخلود للنوم مطمئنا للمستقبل من منطلق أن لديه الكثير، بل إن عليه أن يجنب فوائضه المالية وثروته بأي شكل من أشكالها المخاطر بالتخطيط المبكر واستدامة النمو.
أما الدولة، فعليها أعباء أكبر بكثير مما على الفرد في إدارة فوائضها المالية وثرواتها لأسباب كثيرة أكتفي منها هنا بالملكية العامة؛ لأنها فوائض وثروات شعوب لا أفراد، وبالتالي فإن حجم المخاطرة في إدارتها والتعامل معها يجب أن يكون في الحدود الدنيا.
ولذلك تلجأ العديد من الدول للحلول السهلة بتحويل فوائضها للاحتياطي العام، بصرف النظر عن شكلها أو تنوعها، سواء كانت ذهبا أو عملات أجنبية أو حقوق سحب خاصة.
ولكن كل من يعرفون أبجديات المالية يعرفون أيضا أن الأسلوب المتبع في إدارة هذه الاحتياطيات في العديد من الدول النامية هو أسلوب الاحتفاظ في الخزينة لحين الحاجة أو القرش الأبيض لليوم الأسود أو البقرات السمان للبقرات العجاف. فالعملات الأجنبية مجمدة رغم أن قيمها تتغير ويمكن الاستفادة منها بالمتاجرة أو حتى في تكوين سلة منوعة لدعم تعويم العملة المحلية وحمايتها من التقلبات الحادة ومن مخاطر الربط بعملة رئيسية واحدة. وإمعانا في البحث عن الراحة في إدارة الفوائض يودع معظمها في سندات خزينة أجنبية منخفضة العائد.
ولكن التفكير بأن تكديس الأموال مقومة بالعملة أو الذهب في خزائن الدول والأفراد يعني مزيدا من الثراء لم تعد صالحة منذ أمد طويل، بل إن أول من نسف هذه الفكرة كان ابن خلدون الذي رأى أن الدولة لا تعتبر غنية إذا ما اكتفت بكنز أكداس من الذهب والفضة والمعادن النفيسة. وبنى هذا التحليل على ملاحظته بأن السودان (أفريقيا السوداء) كان لديهم ذهب يزيد بكثير عن المتوفر لدى دول المشرق العربي، في حين أن الرفاه والانتعاش الذي كان المشارقة يرفلون به فاق بكثير ما توفر للسودان. ومن هنا ربط الانتعاش والرفاه بتوسيع طاقة الإنتاج وتصدير المزيد من البضائع؛ لأن عدم حصول ذلك يؤدي إلى استنفاد أرصدة الذهب لعدم قدرة المجتمع على استثمارها في نشاطات منتجة. وهذا هو بالضبط ما دعا إليه (كينز) فيما بعد وينطبق بحذافيره على شعوب الشمال المنتجة والجنوب المستهلكة هذه الأيام.
ومن هنا أتت أيضا فكرة التنويع الاقتصادي التي كنا ولا نزال أحوج شعوب الأرض له. ولكن التنويع في دولة ذات نظام اقتصادي ريعي مثل المملكة تملك الحكومة فيها الشريحة الأكبر من الثروات الوطنية لا يمكن أن يتم إلا من خلال إرادة وطنية وتخطيط مركزي وإقليمي محكم لتدارك المسألة، وذلك بالعمل الجاد لتطبيقها وتوظيف جزء من الفوائض المتراكمة لتمويلها قبل أن تأكلها السبع العجاف.
ففوائض السنين الماضية والقادمة يمكن تقسيمها إلى أربعة أجزاء، أحدها يبقى كاحتياطي لا يمس إلا عند الضرورة، والثاني لاستكمال البنى التحتية وتجديدها، والثالث للمتاجرة، والرابع للتنويع الاقتصادي.
ونظرا لتنوع الأغراض، يمكن الإبقاء على الاحتياطي من خلال مؤسسة النقد وبمجلس إشراف يضم استشاريين وأعضاء مختصين من الهيئات الرقابية العامة والأهلية. أما الأجزاء الباقية فيمكن أن تدار من خلال صناديق تدير برامج ومشاريع خاصة، ويمكن أن تكون لها ذمة اعتبارية مستقلة وتدار بأساليب الإدارة التجارية والبنكية من خلال تحالف بنكي متخصص ومجلس خاص يضم الجهات ذات العلاقة بالتخطيط والتنفيذ ومستشارين وخبراء محليين ودوليين ومن الأجهزة الرقابي المناسبة.
وبالنسبة لهذه الصناديق، فإن صندوق استكمال البنى التحتية واضح المعالم والأغراض، أما صندوق المتاجرة فيمكن أن يخصص للمتاجرة بالعملات والمعادن والنفط والسلع العالمية الرئيسية والإقراض للدول على أسس تجارية. أما صندوق التنويع الاقتصادي، فيجب أن يأخذ باعتباره الفروق المناطقية والموارد المحلية المتاحة مع التركيز على الصناعات والخدمات القابلة للتصدير أو القابلة للإحلال محل الواردات، وإرساء قواعدها من خلال المدن الاقتصادية الموجودة والمرافق الجديدة المقترحة.
وبهذا يمكن تقسيم الفوائض على عدة سلال إنتاجية وطنية واضحة المعالم وقابلة للرقابة والقياس. كما تتلاشى بهذا التوظيف أية فوائض متراكمة توحي بوجود أموال ليس لها مجالات للاستثمار في الاقتصاد الوطني.