رؤية اقتصادية مسـتقـبلـيـة

عبدالله دحلان

من أكثر ما يدفعنا لحماس العطاء ويعطينا الأمل على المدى الطويل هو استقرار بلادنا واستقرار نظام الحكم في المملكة، وهو ما يتمثل في سلاسة انتقال الحكم من ملك إلى ملك، وقد سارت عليها المملكة منذ سنوات طويلة ولمسناه الأسبوع الماضي.
ولا يمكن أن يكون هناك بناء بدون أساس، حيث يضع الملوك الأوائل الأسس وعندما توضع الأسس يظهر البناء ولا يمكن أن يستمر البناء على نمط واحد على مر التاريخ، ولكنه يتشكل ويتطور بتطور العلم والتقنية والفكر القيادي والظروف المحيطة. وتطور بلادنا لم يبن على التقليد وإن كان التقليد المرتبط بالتطوير هو سياسة استخدمتها بعض الدول المتقدمة في بناء قاعدتها الإنتاجية مثل اليابان والصين، إلا أن الاستفادة من تجارب الآخرين من الدول الصناعية بما يتماشى مع ظروف وخصوصية كل دولة هو أمر يسرع من إحداث النمو والتنمية في الدول النامية. ولن أتحدث اليوم في العموم، ولكن سأقصر حديثي على إبداء رؤية اقتصادية مستقبلية للمرحلة القادمة التي نمر بها، وتتركز رؤيتي على ضرورة وضع سياسة منضبطة في تنويع مصادر الدخل، ليس فقط في شكل كلمات معلنة أو مكتوبة في خطط التنمية، وإنما رسم خطة أو استراتيجية مكتوبة مرتبطة بخطة عمل محددة يحكمها إطار زمني محدد تسهم في نهاية الأمر في زيادة الناتج القومي للمملكة وزيادة الإيرادات غير البترولية على أن تقيم نتيجتها كل خمس سنوات.
وإن كنت أرى، وفي وجهة نظري، أن البدائل أمام المملكة عديدة، وبالفعل قد بدأت المملكة في تنويع مصادر الدخل، إلا أن البترول ما زال هو المورد الأساسي في إجمالي الإيرادات بنسبة تفوق الـ90%، الأمر الذي يجب تجنبه مستقبلا من خلال رؤية استثمارية واضحة في تنويع مصادر الدخل بتنمية مختلف القطاعات، فعلى سبيل المثال يجب وضع خطة وطنية بتقنية عالمية لجذب المزيد من الاستثمارات في الثروة المعدنية في المملكة، وهو ما بدأ بالفعل مع مشروع تصنيع المعادن في شمال المملكة، ومشروع استخراج الفوسفات ومشاريع التنقيب للحديد وتصنيعه وغيرها من الثروات المعدنية. إلا أن الخطى ما زالت بطيئة ويعتبر تطوير قطاع المعادن ذا أهمية بالغة في تنوع الاقتصاد السعودي وتقليص اعتماده على النفط، ومن المتوقع أن يحقق قطاع التعدين نسبة نمو سنوية تتجاوز 1.9، وهي نسبة بسيطة أتمنى أن تتضاعف في السنوات المقبلة.
وأرى أنه من الضروري الضغط على الشركاء في التجارة الخارجية للاستثمار في المملكة، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين استفادوا من أسواق المملكة خلال الخمسين عاما الماضية كمصدرين فقط، وخصوصا في مجالات صناعة السيارات ومستلزمات الأدوية بأنواعها وبعض صناعة البناء والتشييد والمزيد من صناعات الـdown stream.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة مسبقا لتطوير المؤسسات الصغيرة، إلا أنها ــ وللأسف ــ جهود مبعثرة لم ترق للمستوى الذي يؤثر في الناتج القومي مقارنة بالدول المتقدمة التي تسهم فيها المشروعات الصغيرة والمتوسطة بما لا يقل عن 50% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي بعض الدول تصل النسب إلى 70% أو أكثر.
أما قطاع السياحة وأقصد بها السياحة الدينية، وقد كتبت كثيرا على أهمية الدور الذي قد تلعبه السياحة كبديل للنفط في زيادة إيرادات الدخل القومى للمملكة، وذلك بتبني استراتيجية من شأنها زيادة الناتج القومي لقطاع السياحة في السعودية، وانتعاش ميزان المدفوعات وزيادة فرص العمل للعاملين السعوديين في هذا القطاع وزيادة معدلات التشغيل للعمالة الوطنية وزيادة نسب التشغيل للمشاريع الفندقية وقطاع الخدمات، وعلى وجه الخصوص النقل. كما يمكن التركيز على الصناعات المرتبطة بالسياحة الدينية لتحل محل السلع المستوردة، والتي يتم استيرادها بآلاف الملايين، وذلك من خلال إنشاء مدن صناعية متخصصة لإنتاج مستلزمات الحجاج والمعتمرين، مما يسهم في عملية تطوير قطاعات السياحة والصناعة وقطاع الخدمات على حد سواء.
وأجزم بأن هذا القطاع يتطلب إنشاء وزارة للسياحة والآثار شريطة إزالة جميع المعوقات التي تواجه هذا القطاع، وهو البديل المنافس لإيراد النفط. كما أقترح إعادة النظر في خطط المدن الاقتصادية القائمة وتحويلها من مدن تعتمد على التطوير العمراني والمضاربة العقارية إلى مدن تعتمد على الصناعات المتوسطة والصغيرة، والمدن القائمة تحتاج إلى مزيد من العمل المتسارع لجذب استثمارات محلية بتقنية أجنبية بما يدعم اقتصاد المملكة ويساعد في نموه ومضاعفة معدلات إجمالي الناتج المحلي، بل ستسهم أيضا في تحقيق التنمية المستدامة لمناطق المملكة.
لا شك أن النظرة المستقبلية للاقتصاد الوطني في ظل التطورات الإقليمية والعالمية الحالية وانعكاساتها على القطاع البترولي سيكون لها تأثيراتها على الاقتصاد الوطني؛ لذا فإن سياسة تنويع مصادر الدخل أصبحت ملزمة وعاجلة لاستمرار مسيرة التنمية بما يحقق تطلعات المواطن لمستقبل أفضل تحقيقا لتنمية مستدامة شاملة في كل مناطق المملكة على حد سواء، بما يسهم في ازدهار الوطن، ورفاهية المواطن، ودعم عجلة التنمية. ولن أغفل أخيرا عن أهمية الترشيد في الإنفاق والتركيز على مشاريع ذات العوائد.