40 عاما برفقة محمد العلي

محمد عبدالرزاق القشعمي

تعود علاقتي بالصديق الأستاذ الشاعر محمد بن عبدالله العلي إلى أربعين عاماً مضت، إذ أقامت المملكة أسبوعاً ثقافياً بالمملكة المغربية عام 1396هـ/ 1976م.
تعرفت خلاله عليه، كان لقاء عابراً بمقر جريدة اليوم بالدمام بمكتب رئيس التحرير وقتها الزميل محمد العجيان – إذ كان زميل دراسة بمعهد الرياض العلمي قبل عقد ونصف من اللقاء – عرف أبو خالد بوجهتي فعرفني بأبي عادل وقال إنه سيرافقكم للمغرب كمندوب عن الجريدة.
بعد وصولنا للرباط بيومين وكان سكننا في فندق الهلتون، وقد خصصت الغرف المحيطة بحمام السباحة للصحفيين، عرفت أنه لم يجد راحته للضوضاء التي يسببها مزاولو السباحة. فعرضت عليه مشاركتي غرفتي.. وهكذا كان. عرفته عن قرب، وتوطدت العلاقة فيما بيننا أكثر في تنقلاتنا بين مدن المغرب في سيارة واحدة برفقة الأستاذ علي الرابغي.
المدينة الثانية كانت الدار البيضاء.. وكنا معاً في المسرح حيث يقام الحفل الفني، أذكر منهم: طارق عبدالحكيم، ومحمد علي سندي، ومطلق مخلد الذيابي، ومحمد عبده وغيرهم. أذكر أن الحفل الثالث كان في مدينة مراكش وكان المذيع عبدالعزيز شكري يقدم الفنان محمد عبده قائلاً إليكم الفنان الحساس فصفق الجمهور وصفر واعتقد أنها كلمة مستحبة فكررها مراراً فبدأ الهياج والضحك ففهم أخيراً أنها كلمة لا تتناسب والمقام، فرغب الأستاذ العلي أن يهدئ الوضع فرفع أصبعه للمذيع فدعاه (للمكرفون). وبدون مقدمات قال:
فلنتينا
فلنتينا وأنت تعبرين الكون
هل شاهدت غابة نخيل
يدعونها القطيف والأحساء
وكثبان رمل يسمونها الدهناء
وقرية ناعسة الجفنين
اسمها شقراء
تلك بلادي يا فلنتينا
.. إلخ.
قال هذه قصيدة من بلادي لسعد البواردي. فصفق الجمهور وعاد الهدوء للمسرح وبدأ الغناء.
وفي أمسية شعرية في الدار البيضاء للدكتور زاهر عواض الألمعي حضرها عدد من الشباب، وبعد أن ألقى مجموعة قصائد أذكر منها قصيدته في مدح وكلاء الوزارات عند زيارتهم لبلدته – رجال ألمع – سأل أحدهم عن المدارس الحديثة في الشعر فاعتذر لعدم إلمامه به، فأنقذ الموقف المذيع الزميل منصور الخضيري قائلاً إن الصحفي المرافق لنا محمد العلي يمكنه إجابتكم على هذا السؤال، فحاول أن يجيب وهو يقتعد مكانه بين الجمهور، وبعد أن تحدث قليلاً طالبوه أن يعتلي المنصة ليسمع أكثر.. وأضاف الخضيري قائلاً للجمهور عندما رأى إعجابهم: إنه شاعر. فطالبوه بإلقاء شيء من شعره، فألقى عليهم: لا ماء في الماء، والعيد في الخليج، وغيرها فطالبه الجمهور بالمزيد. ومن إعجابهم به رافقوه إلى الفندق – رغم بعده – مشياً على الأقدام، وبقي عدد منهم متحلقين حول العلي والكل يسأل عن الحركة الثقافية الحديثة في المملكة.. وقد تبادلوا العناوين للمراسلة.
كما أذكر أن الدكتور ناصر بن سعد الرشيد قد ألقى قصيدة يسخر فيها من الشعر الحديث ويطالب الخنساء بالخروج من قبرها لتبصق في وجوه شعراء الحداثة، وعند عودة الوفد إلى المملكة تولى العلي الرد عليه بأكثر من 12 حلقة في زاويته الشهيرة بجريدة اليوم (البعد الآخر).
كان لي شرف مرافقته في أول سفر له خارج المملكة، إذ كان لم يسافر وقتها لعشر سنوات وكانت وجهتنا القاهرة، حيث معرض الكتاب، ولكنا مررنا على دمشق لعدة أيام وسكنا فندق (الإيوان) وهناك زاره زميله عندما كانا يدرسان العلوم الدينية في النجف الشاعر مصطفى جمال الدين. كان على موعد معه. ولم يذكر لي تفاصيل علاقتهما، وفوجئت برجل معمم يتزيا بلباس رجال الدين التقليديين، بوجه طلق وابتسامة حانية لا تفارقه وبمجرد أن رآه العلي قفز مستقبلاً ومرحباً ومعانقاً، وبدأ الضحك يعلو عندما يتذكران ما مضى من أيام التلمذة. وهناك التقينا بالراحل عبدالرحمن النعيمي وعبد رب النبي العكري.
وبعد وصولنا للقاهرة واستقربنا المقام طلبت جواز سفره للاحتفاظ به خوفاً من ضياعه، رفض رفضاً قاطعاً قائلاً: هو أغلى من حياتي سوف أحافظ عليه وأعوضه عن السنوات التي فارقني أثناءها.
هناك الكثير والكثير مما يستحق أن يقال عن أبي عادل، ولكن الحيز المحدد قد يحول دون الاسترسال، ولكن لا بد من الإشارة لبعض المواقف الطريفة ومنها ما كان بينه وبين الراحل عزيز ضياء حدود عام 1411هـ وعند إقامة حفل الغداء في إحدى مناسبات المهرجان الوطني للتراث والثقافة، قام أحد الضيوف المغاربة فألقى خطاباً كله مدح ومبالغة وإشادة بالمظاهر الحضارية والنهضة العمرانية التي شهدها.. وعند نهاية كلمته طلب عزيز ضياء الكلمة فأذن له فرد على من سبقه، وقال إن الحرس الوطني قد أحسن صنعاً في إقامته لهذا المهرجان الثقافي ودعوته لهذا العدد من مثقفي الوطن العربي والتقائهم بإخوانهم في المملكة، وقال كلاماً استحسنه الجميع فصفقوا له. وعند انتقالهم لقاعة الطعام قابل العلي عزيز ضياء وشد على يده قائلاً: أتمنى أن تموت الآن!! فرد عليه ضياء قائلاً: إنها دعوة من صديق.
سافرت داخل المملكة وخارجها. وفي كثير منها لم أكن بمفردي. بل أختار من أسافر معه، وقد لا يتوافق من أختاره مع رغبتي أو هواياتي، فأحاول ألا أكرر السفر معه. إلا اثنين سافرت معهما لمرات عديدة تزيد على العشر، وهما الراحل عبدالكريم الجهيمان وأستاذنا محمد العلي، كانا نعم الرفيقين، لم ألمس منهما ما يزعج أو يكدر، قد نختلف قليلاً في اختيار المكان أو الجهة التي سنذهب إليها، أو عدم تجانس الأشخاص الذين سندعوهم أو نذهب إليهم، حتى الطعام لم يحدث أن اعترض أحدهما على ما يقدم سوى الموعد، فأبو عادل لا يتبرم ولا يلح عندما يتأخر موعد الغذاء – وبالذات الغداء لكونه الوجبة الرئيسية – فتجده يدخل ويخرج من غرفته وهو يضع يده على بطنه ليشعرك إنه جائع، أما الفطور فهو يصحو مع زقزقة العصافير، ليعد لنفسه فنجان قهوة، وبالمناسبة هذه الصنعة الوحيدة التي يتقنها، ثم يجلس ليكتب أو يقرأ لمدة ساعة وقد تمتد لساعتين حتى أصحو لنعد طعام الإفطار، فهو لا يعترض إلا على الفول ومشتقاته بدعوى أن لديه حساسية منه، هو يتقن ويحرص على أخذ صحنه وملعقته التي استعملها في الأكل ليذهب بها إلى المطبخ فقط لا غير، هو لا يساعد في الطبخ ولا غسل الأواني، إذ صادف أن سافرت معه لوحدنا مرات عديدة.
كنا قبل عشر سنوات نحضر معرض الكتاب بالقاهرة فذكر له أحمد عبدالمعطي حجازي وجود عابد خزندار في فندق الشيراتون، فاتصلنا به ودعوناه ليسهر معنا، وكنا نسكن في مكان بعيد، والمسافة بيننا وبينه طويلة مع زحمة السيارات لا تقل عن ساعة، فأصر أبوعادل أن يذهب له بنفسه لمرافقته في الحضور، ومن حسن الحظ أن يكون معنا وقتها الشاعر محمود نسيم والدكتور شبل بدران وكان مع الأخير سيارة فذهبا مع العلي لإحضار الخزندار.. وهكذا عند نهاية السهرة أصر على مرافقته إلى الفندق. فهذه المبادرات أو هذه الحيوية لا تتكرر من أبي عادل. هو يكره أن يرى صديقه يتألم أو على فراش المرض، فكثيراً ما يسأل عن أحدهم فإذا عرف أنه في المستشفى يطلب زيارته في اليوم التالي.. ولكنه يغير رأيه في النهار لهذا السبب. إذ حصل معي مرتين ولم يف بهما زيارة الراحل عبدالعزيز مشري عندما كان يرقد في المستشفى التخصصي بالرياض، والأخرى زيارة رئيس تحرير جريدة اليوم بالدمام سابقاً محمد العجيان شفاه الله وعافاه.. فهو ممن يطبق الكلام المأثور (كلام الليل يمحوه النهار).
ولهذا فقد طلبت منه بل ورجوته قبل 15 عاماً أن أسجل معه حديث الذكريات ضمن برنامج يحفظ في مكتبة الملك فهد الوطنية باسم (التاريخ الشفهي للمملكة)، وذلك بعد أن حضر تسجيلا مماثلا مع الأستاذ سعد البواردي بالقاهرة بحضور أستاذنا الجهيمان – رحمه الله – وقد شارك العلي بشهادة مسجلة في نهاية مقابلة البواردي شاكراً له دوره كرائد للصحافة المبكرة في المنطقة الشرقية ومشيداً بقصيدته الرائعة (فلنتينا) ولدور والده كشاعر.
طلبت من العلي أن أسجل معه ما يمكنه تذكره من محطات مهمة في حياته فيوافق ليلاً، فإذا حضر المصور لتسجيل اللقاء بـ(الفيديو) يرفض ولمرات عدة. فأتذكر ما سبق (كلام الليل يمحوه النهار) فأسكت!!
اختم بشكر لا حدود له لمن دعا لهذه المناسبة في تكريم هذا الرجل الرائد فهذا هو الوقت المناسب، فتكريم الإنسان في حياته لهو خير وسام يعلق على صدره اعترافاً بفضله وما قدمه للمجتمع، شكراً للأساتذة أحمد الملا ومحمد الهلال وكل من ساهم في تحقيق هذا الحلم.