إعلامي.. «مسبق الدفع»

محمد المختار الفال

استغلال الإعلاميين لتمرير معلومات أو اختبار مدى قبول فكرة أو رفضها من قبل الرأي العام، شيء قديم جديد، وله أساليبه وطرقه، يلعب فيه كل طرف دوره بمهارة وبما يحقق أهداف الجميع، فالمصدر أو الجهة التي تريد تسريب معلومة أو تستطلع رأي الجمهور المستهدف في قضية ما يتحقق لها الهدف بقبول الإعلامي لعب دور الوسيط الناقل، والإعلامي المحترف يحقق هدفه بالاقتراب من المصادر المهمة ونيل ثقتها لتظل مصدرا يطلع من خلاله على معلومات أو اتجاهات لا يستطيع المنافسون الوصول إليها.
وهذه «اللعبة الثنائية» تتفاوت في وضوحها ودرجاتها واختلاف أساليبها باختلاف البيئات والقوانين المنظمة لعمل ونشاط الإعلاميين، ففي المجتمعات التي تعترف بحق الحصول على المعلومات، يكون للإعلام سطوة ودور فاعل يسعى الجميع لتحقيق أهدافه من خلال قنواته المتعددة، لكن تلك السطوة والفاعلية تبقى مضبوطة بالقانون ويخضع أهلها للمحاسبة إذا تجاوزوا ما تتيحه القوانين والأنظمة المرعية..
أما في المجتمعات التي لا تحتفي بالمعرفة وتأثيرها ولا تعطي أهمية لقياس الرأي واستجابته للأحداث ويتوارى فيها حق الحصول على المعلومات، فاللعبة بين الإعلاميين والمصادر تتعقد وتختلط ملامحها حتى تتلاشى الحدود والفواصل..
وفي عالمنا العربي عرفت هذه العلاقة كل أنواع «الاستخدام» فجعلت من بعض الإعلاميين ووسائلهم أدوات لإيصال ما تريده المصادر من رسائل أو دفع ما تخشاه من تهم أو النيل ممن تخاصمه، بكشف عيوبه وأخطائه، وإذا لزم الأمر، الزيادة عليها. وبمرور الزمن تحولت العلاقة بين الإعلامي والمصادر إلى «حرفة» أجاد وأبدع فيها البعض وتسابق إلى الصفوف الأمامية لتحقيق المكاسب، باستثناء أسماء قليلة ارتبطت بمصادرها برباط «القناعات المشتركة»، لكن حتى تلك القلة تشعبت بها الطرق وتحولت في النهاية إلى «مصالح» لم تستطع التخلص منها حتى بعد رحيل «الملهم»..
والحكايات كثيرة في هذا الباب، بعضها مضحك ساذج فيه من البلاهة أكثر مما فيه من خفة الظل والفطنة أو الظرافة، وبعضها محزن يجسد «كوميديا سوداء» تدل على انعدام القيم وموت الضمير.. وسمعنا في هذا «البازار» أوصاف وألقاب وأسماء «هواتف العملة»، لمن لا يتحدث أو يكتب إلا بالنقود، و«المستفيد فوري» الذي لا يقبل الوعود.. وتفاوتت الأقدار والأثمان بحسب تسعيرة السوق وتقدير المصدر «للأداة» وتقديرها لنفسها، فهناك من ترضيه عشوة دسمة مع قليل من الدراهم ومن تخطف بصره الساعات اللماعة والحقائب الجلدية ومن لا يقبل إلا «العملة الصعبة» مع انحدار سعر صرف العملات المحلية.
وفي زمن الأقمار الصناعية وشبكات التواصل وموضة القنوات التلفزيونية ومسرح برامج «التوك شو» ظهر إعلاميون طوروا الشكل وحافظوا على المضمون فظهر على الساحة الإعلامي «مسبق الدفع» الذي لا يعمل إلا بـ«الشحن». ومثل كل الأسواق ظلت «السلع» تتفاوت في أسعارها بحسب شهرتها وتأثيرها وإقبال الناس عليها..
ومن مميزات هذا الجيل من «مسبق الدفع» قدرته على التحول السريع من المدح إلى الردح دون تقدير لذاكرة الناس ووعيهم فهو يمدح «الشاحن» اليوم وإذا توقف رفع الصراخ بهجائه وأقبح أوصافه..
لكن فات هؤلاء أن الناس أصبحوا أكثر وعيا منهم وأن التكنولوجيا التي يستخدمونها لتحقيق أهدافهم ترصد أخطاءهم وسقطاتهم وستنتهي بهم إلى ما يجمعه عمال البلديات في المدن العربية.