كتابة العادات في «أحجار قارعة الطريق»

مقاربة: حمد الرشيدي

(أحجار في قارعة الطريق) هي رواية صدرت عام2014م بطبعتها الأولى عن (مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة) بالقاهرة للكاتب والشاعر السعودي/ سعد بن عبدالله الغريبي.
وتقع هذه الرواية في 192 صفحة من القطع المتوسط، عكست علاقة الفرد بمجتمعه بكافة أبعادها الاجتماعية والدينية والنفسية والاقتصادية والمعرفية.
وتدور أحداث الرواية حول أبرز الإشكاليات التي تواجهها المجتمعات المحافظة، وتكون عائقا يحول دون مواكبتها لتطورات الحياة العصرية التي تعيشها نظيرتها من المجتمعات الحديثة الأخرى الأكثر تحررا أو انفتاحا على الحياة بكافة جوانبها، لدرجة قد تبلغ عزلها عن محيطها الإنساني، وحرمانها من فرصة التلاقح الثقافي والفكري والحضاري مع الآخر، حتى لو اختلف عنها دينيا وعرقيا ولغويا.
إذن، فالعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي يتوارثها مجتمع ما، جيلا عن جيل ومن زمن إلى آخر، واختلافها عن بعضها زمانا ومكانا ما هي ــ في الحقيقة ــ إلا ممارسات، وطقوس بشرية عادية في الأصل، اعتاد أفراد هذا المجتمع أو ذاك على ممارستها أو مزاولتها مع مرور الزمن حتى أصبحت بحكم (النظام أو القانون الصارم) بعد أن كانت عادة بشرية لا سلطة لها، ثم أحيطت ــ فيما بعد ــ بـ(قدسية) معينة بعد أن كانت (عرفا) حتى وإن كان بعضها ليس من الدين في شيء، وقد لا يمت للقيم الإنسانية التي تعارف عليها عامة البشر بصلة.
إن مثل هذه الموروثات الاجتماعية، سواء ما كان منها ماديا أو معنويا، قد شكلت في مجموعها في أذهان ممارسيها ومقدسيها مع مرور الوقت ما يعرف بـ(الطوطمية) التي تعني ــ ببساطة ــ تقديس ما لا قدسية له، لدرجة تفوق قدسية الدين أحيانا. وهذا ــ بالتالي ــ ما يمكننا تبينه واستيضاحه من مسمى هذه الرواية التي رمز كاتبها لتلك الطوطمية التي أشرنا إليها آنفا بـ(الأحجار) التي تعترض طريق الفرد بين جنبات مجتمعه، كلما أراد هذا الفرد التحرر من ربقة القيود الاجتماعية الصارمة، المقننة لوجوده وحياته وأساليب معيشته، والمؤطرة لأحلامه والمقيدة لطموحه وتفكيره كانسان، والتي (ما أنزل الله بها من سلطان).
ومن الواضح في الرواية تغلب السلطة الاجتماعية (الخوف من المجتمع) على الجوانب الدينية (الخوف من عقاب الله تعالى)، أي احتكام الشخصيات المحورية وذات الدور الفاعل فيها ومرجعيتها في بعض تصرفاتها وسلوكياتها وتفكيرها ــ أحيانا ــ لعناصر المجتمع في المقام الأول، أما الرجوع إلى الدين في مثل هذه الأمور ومعرفة مدى مشروعيتها من عدمها، فقد كان أمرا ثانويا بالنسبة إليها.
صحيح أنه ينبغي علينا المحافظة على ما توارثناه عن أسلافنا من عادات وتقاليد حميدة وقيم إنسانية سامية، لكن الأهم من ذلك كله أن يكون الدين الحنيف ــ بمعناه الحقيقي ــ هو المعيار الفعلي لتقييم هذه الجوانب من حياتنا، وليس المجتمع.
وهذه هي القضية الأساسية التي يتمحور حولها موضوع هذه الرواية، والتي تراسلت أحداثها وتواترت وقائعها، وتعددت أزمنتها وأماكنها حتى لعبت شخصياتها أدوارا متباينة في تعاملها مع الدين تعاملا مبنيا على (انتخابية أو انتقائية) شخصية معينة، بحيث ظهرت وكأنها تأخذ من الدين ما يوافق أهواءها وأمزجتها وميولها الذاتية، في الوقت نفسه الذي تحاول من خلاله ــ أحيانا ــ تنحيته حين تشعر بعدم موافقته لما تريده وتبتغيه لنفسها في كثير من تصرفاتها وسلوكياتها، وتفكيرها، وأساليب معيشتها.
فالدكتورة (عبير)، وهي الشخصية الرئيسية في هذا العمل السردي، تلك الفتاة التي نشأت وترعرعت في مجتمع محافظ جدا، محاط بأسيجة من العادات والتقاليد والأعراف الصارمة، حين تبتعث لدراسة (الدكتوراة) خارج بلادها في (بريطانيا) لسنوات طوال، قضتها في جد واجتهاد ومثابرة وكفاح حتى حصدت نجاحا باهرا في مجال تخصصها كباحثة في الشؤون الإنسانية وخبيرة بالسلوكيات الاجتماعية، وحين تعود إلى وطنها الأم ومجتمعها الأصلي بعد غياب طويل لتجني ثمرة هذا الكفاح، فإنها تتفاجأ بعكس ما كانت تريده وتطمح إليه من حظوة تستحقها بين أفراد مجتمعها، إذ تصطدم بعاداته وتقاليده مجددا، ومعارضاته القاطعة لما جاءت تحمله من كفاءة علمية كبيرة وخبرة مهنية معتبرة، وأفكار جديدة في مجالها، تحاول عبرها الإسهام في تطوير مجتمعها وتعزيز مقدراته وتنمية إمكانياته المعرفية وموارده البشرية.
وكان من أولى العقبات التي اعترضت طريقها لدى عودتها لبلادها رفض أهلها لطلبها حين اقترحت عليهم ــ مبدئيا ــ فكرة زواجها من زميل لها، مسلم، من الجنسية (الآسيوية) كان يدرس معها في الجامعة نفسها، وكانا قد اتفقا مسبقا فيما بينهما على هذا الزواج من قبل.
وكان هذا الرفض ــ طبعا ــ بدافع اجتماعي بحت، وليس له أي مبرر ديني أو شرعي واضح، بحجة أنهم من عائلة محافظة، وذات حسب ونسب، ولا تقبل بزواج بنتها من شخص أجنبي، أو من عرق أو جنس بشري مختلف عنهم، حتى لو كان مسلما.
ومن النماذج الأخرى التي تعاملت مع المجتمع والدين بنخبوية معينة في هذا العمل شخصية الدكتور (يوسف) زوج الدكتورة (عبير) التي وافقت على زواجها منه بعد أن قام أهلها برفض فكرة زواجها من زميلها تماما، فهو على الرغم من أنه نموذج للإنسان المتعلم الناجح في عمله، ومن طبقة اجتماعية مثقفة وواعية، وعلى الرغم مما حققته زوجته من نجاح باهر في مجال عملها وتخصصها الأكاديمي، إلا أنه يضايقه بروز اسم زوجته في الوسائل الإعلامية، وحديث الناس المتواصل عن آخر ما توصلت إليه من تقدم ملحوظ وإنجاز وتفوق في بحوثها الاجتماعية المتخصصة في مجال الإنسانيات.
فهو على الرغم من سعادته بذلك، وإيمانه بأن زوجته تمارس عملا أكاديميا رائعا وناجحا ومشروعا، وجهدا إنسانيا واجتماعيا تستحق الشكر عليه فعلا، إلا انه قرر أخيرا إيقافها عن مواصلة عملها إعلاميا؛ لما يسببه ذلك من إحراج شخصي له، جراء تداول الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي لأخبار زوجته، وحديثهم عنها بين الحين والآخر، وكان الدافع الفعلي وراء ذلك هو العامل الاجتماعي أيضا وليس الدين، ولا الشرع، ولا حتى النظام.
وهناك نماذج أخرى أظهرت تناقضا واضحا في تعاملها مع محيطها، محاولة التمسك بالدين ظاهريا، حتى وإن كانت تمارس من خلال بعض أفعالها داخليا ما ينافيه، لمصلحة شخصية، أو لغرض ما، مثل تلك المرأة (الخطابة) الكبيرة في السن، التي أطلق عليها الكاتب اسم (أم صالح)، والتي امتهنت عمل الزيجات (العقد بين رأسين بالحلال) لسنين طويلة.
لكنها ــ على الرغم من ذلك ــ ترفض، بل وتصر على ألا يصفها الناس، أو ينعتوها بهذه الصفة (الخطابة) التي تؤذيها وتكره سماعها، مع أنها تمتهن عملا إنسانيا شريفا ومشروعا، ليس فيه ما يعيبه أبدا، وهو من أعمال الخير التي أوصى بها ديننا الإسلامي الحنيف، وهي ــ أي (أم صالح) ــ أيضا تدعي أنها تعمل ذلك لوجه الله تعالى، دون مقابل أو أجر مادي، غير أنها ــ في الحقيقة ــ تأخذ أجرا ماليا محددا على كل شخص يتم تزويجه عن طريقها.
إن هذه الرواية مع ما اتسم به كاتبها من روعة الأسلوب، وجمال اللغة، وتمكنه من فنيات السرد وأدواته، تطرح وتعالج واقعا كان ولا يزال تعيشه فئة من فئات مجتمعنا المحافظة على عاداتها وتقاليدها وأعرافها، حتى وإن كانت في بعض من جوانبها لا توافق الدين، ولا تستند إلى شرعيته السمحة، بحيث جعلت من هذه الممارسات الاجتماعية الموروثة المعيار الأساسي الذي يجب أن تقوم عليه حياة الفرد، ويجري بموجبه تقييمه أخلاقيا وإنسانيا واجتماعيا في مجتمعه، وليس الدين ولا الشرع.