الخويطر بريء .. والسريحي مظلوم
درست علم المكتبات مُكْرَهاً وأضَعْتُ حياتي في الجامعة .. البروفيسور عباس طاشكندي لـ«عكاظ»:
الجمعة / 18 / شعبان / 1436 هـ الجمعة 05 يونيو 2015 20:24
حوار: بدر الغانمي
الحديث مع الذاكرة الوطنية البروفيسور عباس طاشكندي يبدأ ولا ينتهي، ويمتد إلى أبعد مدى.. فالرجل الذي يعكف منذ أكثر من عقد من الزمان على إخراج موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ صاحب أولويات ويد طولى في تاريخ بلادنا مؤرخا ومؤسسا ومربيا وأستاذا. حاورته على مدى سبع ساعات ولم يرو ظمئي لعمقه ورؤيته ومواقفه وتجربته الثرية التي أحاول في جزءين أن أنشر منها الفتات، أما الزبدة فغير قابلة للنشر. أعرب عن حزنه لهدم مكتبات الوقف التي أنارت تاريخ الأمة، واعترف بأنه أضاع أربعة عقود من عمره في جامعة تقاد ولا تقود. أوضح أن تقريرا تآمُريا حرم سعيد السريحي من الدكتوراة، ودافع عن تيارات أستاذه وصديق عمره عبدالله عبدالجبار الذي ظلم كثيرا من قبل معارضيه، وطالب بفرض المواطن على المؤسسات التي تستضيفها المملكة حماية له من البطالة. حوار بدأ هادئا في جزئه الأول، في انتظار هبوب عاصفة الجزء الثاني الأسبوع القادم.
• بداية .. ما مدى صحة أنك كنت اختيار القدر لدراسة علم المكتبات، وأنك درسته مغلوبا على أمرك وليس بدافع أو رغبة منك؟
•• كانت أول بعثات السعوديين لأمريكا من طلبة الثانوية العامة فحاول أصدقائي عبدالله البليهد وكيل إمارة الرياض سابقا، ومقبل الخلف إقناعي بالسفر معهم إلى أمريكا، ولكنني تأخرت في تقديم أوراقي لأنني كنت أعمل في تلك الفترة من الصيف في شركة أرامكو وراحت علي البعثة، فتوسط والد عبدالله البليهد وكتب خطابا للشيخ عبدالعزيز آل الشيخ فأحال الخطاب لعبدالوهاب عبدالواسع مدير عام الوزارة آنذاك الذي قال لي: إذا كنت مصرا على السفر فيمكن لنا أن نرسلك للقاهرة لدراسة علوم المكتبات، ولم تكن هذه رغبتي أو توجهي، فقد كان طموحي أن أفكر فقط فاخترت الفلسفة وأول كلمة سمعتها من أستاذي (ليس أروع في الحياة من أن تكون مفكرا)، لكن القدر قادني لعلوم المكتبات رغم عدم قناعتي بها، وكان معي عبدالكريم جمال وإبراهيم سنبل، والحقيقة أنني من اليوم الأول جاءتني (سدة نفس) فذهبت ودفعت نقودا من جيبي للتسجيل في قسم الفلسفة، فوصل هذا الخبر إلى إدارة البعثات في القاهرة، فخيروني بين الانسحاب من تخصص الفلسفة أو فصلي من البعثة فوافقت على طلبهم مكرها أخاك لا بطل، لكنني أكملت السنة الأولى وكنت أدرس التخصصين وقد تعلقت بأستاذي الدكتور زكريا إبراهيم كثيرا، فأخبرته بأنهم هددوني بسحب بعثتي، فقال لي: أدرس التخصصين بحيث تأتيني كل يوم جمعة من بعد المغرب حتى الساعة العاشرة ليلا، وكنت أواظب عنده مع طالب مصري ضرير اسمه سامح، فأخذت عليه دراسات الفلسفة لمدة ثلاث سنوات بالملازمة على الطريقة القديمة لحلقات العلم. والغريب أنني رسبت في السنة الأولى في المكتبات ونجحت في الفلسفة فأعدت السنة ونجحت وعرفت أنها خيرة ولذلك فإنني أقول لكل طالب لا تستاء من التوجه الذي تقاد إليه، فالخيرة فيما يختاره الله لك.
• إلى أي مدى تأثرت بأوج الحياة الثقافية في القاهرة التي كانت قبلة للمثقفين العرب؟
•• القاهرة كانت عاصمة الثقافة في ظل وجود عباقرة كطه حسين وأحمد شوقي والمنفلوطي وعبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهم، وفيها شرفت بلقاء الأساتذة: عبدالله عبد الجبار، وعبيد مدني، وحمزة شحاتة، ومحمد عمر رفيع، ومحمد مرداد، وكان يلتصق بهم جيل آخر منهم الأستاذ أحمد محمد المانع وغيرهم.
• لكنك عدت سريعا بمجرد حصولك على شهادة البكالوريوس؟
•• كان الطلاب الخريجون مرتبطين بوزارة المعارف ولم تكن عندي الرغبة في الانضمام إليها خصوصا أنه كانت لدي عروض من أكثر من جهة، بدءا من الهيئة المركزية للتخطيط التي كان يرأسها رشاد فرعون الذي أرسل لي خطابا إلى القاهرة مع نائبه سعيد آدم، ثم جاءني محمود طيبة وكان لديه مركز أبحاث في وزارة التجارة وحاول إقناعي بالعمل معه، كما حاول طاهر زمخشري أن يقنعني بالعمل في الإذاعة فوافقت، وعندما عدت إلى المملكة ذهب معي للشيخ حسن آل الشيخ وزير المعارف، وأخبره أن وظيفتي جاهزة في الإعلام فأعطاه خطاب تنازل، فعملت بداية في مكتب عباس فائق غزاوي ولم أكن مقتنعا بذلك العمل وقبلها عملت في قسم الاستماع السياسي، وهذا القسم تحديدا كانت تخرج منه نشرات صباحية ومسائية بكل مايذاع ليطلع عليها الملك فيصل -رحمه الله، حيث نكتبها ونفرغها بخط اليد على الإستنسل، ففي أحد الأيام تضورت جوعا فطلبت من أحد زملائي أن يسجل النشرة لرغبتي في شراء سندوتشات ولكنه نسي ولم يفعل، ومن سوء حظي تحدث أناس في مجلس الملك فيصل عن سماعهم عن أعمال شغب قام بها عمال في مدينة بقيق فسأل الملك عن حقيقة الأمر وطالب بمحاسبة المتسبب في عدم كتابة هذا الخبر، فعوقبت بخصم نصف راتبي وكان هذا عقابا مخففا تقبلته بطيبة خاطر، كما كنت مسؤولا عن برنامجين آخرين أكتبهما بخط اليد من إذاعة صوت العرب تحت عنوان «أعداء الله»، و«أولياء الشياطين»، وكان هذان البرنامجان يتناولان عددا من الوزراء السعوديين مثل (عبدالله عريف وحسين عرب وغيرهم) بأشياء بذيئة في عهد الخلاف بين الملك فيصل وجمال عبدالناصر.
أول جامعة أهلية
• ما هو سر التحاقك بأول جامعة أهلية في جدة؟
•• في أحد الأيام جاء محسن باروم إلى الإذاعة، وعرض علي العمل في تأسيس الجامعة الأهلية، وقال لي أنت خريج جامعي كيف ترضى العمل الإداري عند عباس غزاوي فتعال معانا، وكان عائدا لتوه من عمله كملحق ثقافي في جنيف، فطلبت إخلاء طرف من عباس غزاوي فوافق وذهبت معهم إلى شقة في البلد حيث كانت فيها البداية والتربية الحقيقية.
• إلى أي مدى كان السفر إلى أمريكا حلما لكل طالب ولك شخصيا؟
•• لدرجة كبيرة.. فهناك ترى الطريق وتتعلم كيفية السير فيه، ولذلك تغيرت اهتماماتي عندما عدت إلى المملكة، فوجدت أن لي دورا في أمرين مهمين: تطوير المكتبات التي تعتبر رمزا لحركة الكتاب، وتدريس الناحية النظرية لهذا العلم.
• هل كان الواقع محبطا لهذه الدرجة؟
•• جدا.. فقد وجدت المكتبات في صورة غير لائقة بل سيئة فبذلت جهدي في الجهة التي عملت بها والجهات الأخرى، حيث كنت عضوا في مجلس جامعة الملك سعود للمكتبات، ثم تم تعيين الدكتور أحمد الضبيب عميدا لشؤون المكتبات في الرياض وأنا عينت في جدة واستمريت عضوا معهم لعشر سنوات، حيث كنت متخصصا في هذا العلم فيما كان الضبيب أديبا، وكانت تربطني علاقة صداقة مع عبدالعزيز الفدا مدير جامعة الرياض آنذاك حتى عندما كنت طالبا في أمريكا كان يزورني فأقنعته في إحدى المرات أن يرسل مجموعة للدراسة، ووعدني فكانت أول مجموعة تضم يحيى بن جنيد وعبدالرحمن عكرش، وعندما عدت وجدت أن بلادي ليس فيها مكتبة وطنية فحاولت أن يكون لي دور في جميع المراحل، ثم وجدت أنه ينقص اكتمال هذه الأدوار الناحية النظرية فساهمت في إنشاء قسم المكتبات لكي نعلم الناس هذا العلم.
واقع مؤلم
• لكنك لم تكن راضيا عن الوضع على مدى 4 عقود قضيتها في الجامعة؟
•• هذا صحيح، فقد أمضيت أربعة عقود من عمري لم أشعر فيها بقيمة العمل العلمي في حياتي إلا بعد تقاعدي وتفرغي لعمل موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، والسبب أن النتاج العلمي في الجامعات موغل في الأكاديمية، وعضو هيئة التدريس في الدرجة الأولى باحث وعليه دائما أن يفكر في الموضوعات والقضايا ولا يهبط بمستوى المجتمع، وإنما يرتفع به إلى الأعلى، هذه الصورة النمطية الموجودة في الجامعات ومعاهد الأبحاث في الخارج غير موجودة في جامعاتنا التي لم تستطع أن تصل لمرحلة تنمية المجتمع، وإنما تريد من يقودها بينما الجامعات في العالم هي التي تقود، وترتفع بدراساتها التطبيقية لتنمية المجتمع.
• هل تقصد أن التدريس في الجامعات أصبح مجرد وظيفة؟
•• للأسف هو كذلك، وعندما يصل الحال بأن تخرج لنا الجامعات كوادر بهذا المستوى فإنه يحق للدولة والمؤسسات التي تصرف عليها أن تفرض شروطها لتقوم الجامعات بدورها تجاه المعرفة وقضايا المجتمع. وكمثال كان الياباني هاياكاوا رئيسا لجامعة بيركلي وكانت حرب فيتنام في ذروتها بالنسبة للرئيس جونسون فخرجت من هذه الجامعة الاحتجاجات الطلابية التي فرضت على أمريكا أن تسحب قواتها من فيتنام وتغير سياستها.
• وأين دور الجامعات في رفد سوق العمل بالكفاءات المؤهلة؟
•• يفترض أن الجامعات تسند الدولة في شيئين: تخريج كوادر يحتاجها المجتمع (قطاع الأعمال) ويمكن أن يعمل هذا لذاته وليس للحكومة فقط، ومن هنا انسحب الدور التعليمي على تعليم الذهنية وليس الموظف وانقلب الآن دور الجامعات فأصبحت تخرج لنا موظفين في الدولة، وبالتالي صارت الدولة هي التي توظف الخريج وأحدثت أزمة بطالة لأنها جعلت من نفسها الجهة الوحيدة التي تعين الخريج وتعوله، والمفروض أن الدولة في خططها لا تكون هي العائل الوحيد، وأعتقد أن الحد من العمالة الأجنبية له دور كما أن القطاع الخاص عليه أن يستوعب ضعف ما تستوعبه الدولة، والمعروف أن الدول تحمي نفسها بفرض المواطن على المؤسسات التي تستضيفها على أراضيها، فلو ذهبت إلى القاهرة مثلا ورأيت المؤسسات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية والمؤسسات الثقافية، فستجد أنها تستوعب ما بين 90 إلى 95 % من أبناء مصر، وقس على ذلك في الكثير من الدول، أما في المملكة فخذ مثلا: الهيئات الدولية التي تكون في أراضيها، فستجد أن السعوديين ندرة بين موظفيها.
رفضت المناصب
• بصراحة شديدة .. لماذا لم يتم تكليفك في مناصب قيادية بجامعة الملك عبدالعزيز على مدى 40 عاما، مع أن البعض يرى فيك الجدارة بصفتك من المؤسسين لها؟
•• أولا: كلفت في الجامعة بمناصب إدارية ذات طبيعة علمية كالعمادة والمجلس العلمي للجامعة ورئاسة لجنة الترقيات، أما ما عدا ذلك فهي أمور لا تهمني كثيرا، فالمناصب تعجب عشاقها. ثانيا: أن اللقب العلمي هو أبرز ما يحققه أستاذ الجامعة، وقد حققته.
• لكنك رفضت حتى التكريم من الجامعة؟
•• هذه مفاهيمي الخاصة وهي أن الشخص لا يكرم إلا إذا أدى عملا خارقا، أما أداؤه لعمله بأمانة، فهذا واجب لا يكرم عليه. وأخبرتهم أنني على مدى 40 عاما أديت واجبي بأمانة فقط، ولم أقدم أعمالا خارقة تستحق التكريم.
ترسيخ الهوية
• دعني أعود لدائرة علم المكتبات وأتساءل عن السبب في عدم المحافظة على هوية بعض المكتبات الوقفية كمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة التي أعددت فيها رسالتك للدكتوراة؟ وهل ينسحب هذا التوجه كنتاج طبيعي لإهمال المجتمع القراءة والاهتمام بالكتب؟
•• مكثت بهذه المكتبة التاريخية أكثر من أربعة أشهر تقريبا في الفترة التي كان فيها العم محمود أكينلي مديرا وكان رجلا صالحا تقيا، وأحب أن أوضح أنه منذ العهد الإسلامي الأول وجدت المكتبة الوقفية في المدينة المنورة، فأبي هريرة كانت له مكتبة، وعبدالله بن عباس كذلك، وكان لمحمد ابن جبير ابن مطعم مكتبة يسمح بدخول النساء إليها في المساء. وأعتقد أن التلاقح هو الأساس، والحرمان الشريفان كانا مشاعل ترسخ الهوية ويجب أن ننميها ونرسخها، لا أن نهدم مكتبات الوقف التي أنارت تاريخ الأمة على مدى 11 قرنا وكذلك مكتبتي مظهر والمحمودية وغيرها فنذيبها تحت إطار مكتبة المدينة العامة، ومن المؤسف أن نفكر في بناء فندق في مكان المكتبة، وفوق المطبخ يضعون نصف دور للمكتبة.
• هل تعتقد أن تغييب دور هذه المكتبات يؤثر على الدور الذي يتطلع إليه المسلمون من الحرمين الشريفين؟
•• هنا كلمة جميلة للشامخ «أن القرون الثلاثة الأول وصولا إلى القرن الخامس الهجري كانت فترة ازدهار للحضارة الإسلامية ثم تدهور الحال من الخامس على الثامن، حيث غاب فيها عقل العالم الإسلامي فانتشرت الخرافات والصوفية والكتب الصفراء فكانت أسوأ مرحلة».. وفي هذا الشأن كتب يحيى بن جنيد كتابا صغيرا في حجمه كبيرا في مضمونه بعنوان «كيف ورثنا الأمية؟» ولكن الشعلة حملتها من جديد أرض الحرمين الشريفين مع الحج بقدوم العلماء، وأنا أضيف أيضا بما أحاط بالحرمين الشريفين، فلما دخلنا عصر الأمية كانت حلقات العلم تحمل الرسالة ومعها المكتبات الوقفية والأربطة والمدارس الإسلامية التي يتبرع بها خلفاء المسلمين ويبنونها حول الحرم، وكذلك حلقات التدريس في الحرمين والأوقاف والمساجد الوقفية، وللأسف أننا في العصر الحديث فرغنا هذا الدور من الحرمين الشريفين وهذا أضعف الرسالة المناطة بهما.
دكتوراة السريحي
• مارست دورك كوسيط في قضية حجب درجة دكتوراة سعيد السريحي، فما هو موقفك منها؟ ورأيك فيما حدث؟
•• لم يكن لي دور لكنني كنت على صلة ببعض أطراف القضية مثل د. حسن باجودة ومحمود زيني وعبدالوهاب أبو سليمان، وكان لي موقف واضح جدا وهو أنه ما كان يجب أن تحجب درجة الدكتوراة عن الرجل لأن رسالته لا علاقة لها بما كان يدور في الساحة الثقافية، وإنما حجبت لنفوذ بعض الأشخاص والظرف التاريخي الذي كان عليه مجلس الجامعة في تلك الفترة فأشغلوا أضعفهم نفسا بعمل تقرير ربط فيه ما بين الحداثة والتعاطف الكتابي بشأن الحداثة عند السريحي وبين رسالته التي لم يكن لها علاقة بالأمر وطعن في زملاء له، فأسقط في يد مجلس الجامعة ومديرها الذي كان يخشى هؤلاء الأشخاص فمرر التقرير ثم سحب الدرجة. وهنا حقيقة لا بد من ذكرها فمجلس القسم لا يمنح الدرجة ولكن يوصي بذلك، والحال كذلك فمجلس الكلية لا يمنح الدرجة أيضا ولكن يوصي بها، أما من يمنح الدرجة فهو مجلس الجامعة الذي وجدها فرصة فلم يوافق على التوصيات، فالدرجة في الحقيقة لم تعط لكي تسحب، ولا يصبح المنح ساريا إلا بعد اعتماد رئيس المجلس للمحضر وهو وزير التعليم العالي آنذاك وكان وقتها الدكتور عبدالعزيز الخويطر وزير التعليم العالي بالنيابة وهم بذلك ظلموه رحمه الله لأن القرار لم يصله أصلا.
اللجنة العجيبة
• ما هي دوافع تشكيل أول لجنة لمراقبة وتقصي الجامعات والشهادات الوهمية والتي كنت عضوا بها؟
•• لم تكن لجنة لتقصي الشهادات الوهمية، وإنما كانت لجنة لمعادلة الشهادات وقد شكلت بأمر ملكي وكنت عضوا فيها منذ تأسيسها لمدة 12 سنة تقريبا وكانت لجنة عجيبة تركت أثرا في نفسي فقد كان رئيسها الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وتولى نائبه وكيل الوزارة الدكتور محمود سفر رئاستها، وكان من أعضائها د. عبدالوهاب أبو سليمان وعلي الدفاع وراشد المبارك وسراج ملائكة ومحمد الرشيد، ومحمد التركي، وفهد الدخيل.. لقد كنا مجموعة جميلة ومتناسقة وبيننا ألفة رائعة وامتدت صداقتنا منذ التقائنا عبر سنوات العمر.
• وما هو الهدف الحقيقي لهذه اللجنة؟
•• هدفها الأساسي معادلة الشهادات التي تمنح من الجامعات الأجنبية، وواجهت اللجنة مشاكل منها: أن بعض من سافروا ودرسوا في روسيا في عهد الملك فيصل ورغبتهم في الاشتغال بهذه الشهادات وتزامن إنشاؤها أيضا مع وجود عدد من الطلاب الذين سافروا إلى ألمانيا لدراسة الطب ومنهم مجموعة الدكتور أسامة شبكشي فهؤلاء لم يوافق مجلس الوزراء على الاعتراف بشهاداتهم، وكان لوزير الصحة آنذاك د. حسين الجزائري موقف من شهاداتهم، فرفعوا برقية للملك وكان عددهم 70 طبيبا طالبوا فيها بمعادلة شهاداتهم أو ببقائهم للعمل في ألمانيا، فتبنت اللجنة قضيتهم في تلك الفترة وكان أعضاء اللجنة كلهم من خريجي بريطانيا، وسافرت شرقا وغربا حتى أثبت أن (شهادة التخصص) الألمانية لا تقل عن الزمالة البريطانية التي تعادل بشهادة الدكتوراة، وكانت السوق الأوروبية المشتركة كانت ناشئة قد أقرت معادلة للشهادات فجمعوا الشهادات المهنية في بوتقة واحدة، وتمت معادلة الشهادة الألمانية في التخصص الطبي. وقد تطور عمل اللجنة بعد ذلك لمحاربة الشهادات المزورة فذهبنا إلى الهند ووجدنا بها أكثر من 50 برنامجا للتزوير، فعرفنا أن هذا الموضوع يشكل قضية كبرى وبعدها بدأنا ندقق في كل الشهادات.
الملك يتذكرني
• ما هي حقيقة موقفك مع الملك سلمان الذي ساهم في إنشاء ونجاح مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض كأول مكتبة وطنية؟
•• مازال الملك سلمان يذكرني عندما قال لي: أنت أنقذتنا باقتراحك.. فقد كان الدكتور يحيى بن جنيد المسؤول الأول عن المكتبة والمهندس المشرف على المشروع هو الأمير أحمد بن عبدالله بن عبدالرحمن، حيث بنيت المكتبة بتبرع من الأهالي، ولكن أمانة الرياض قالت إنها لا تستطيع بإمكاناتها أن تشرف عليها، وأن الموضوع يحتاج إلى إمكانيات تشغيلية كبيرة، فرفعوا الأمر للملك سلمان، عندما كان أميرا على الرياض آنذاك، فتم تشكيل لجنة من ستة أشخاص منهم عبدالله الوهيبي، ومحمد آل زلفة، وعلي النملة، ومصطفى السدحان، ويحيى بن جنيد، وشخصي الضعيف وطرح علينا سموه المشكلة، وقال أحب أن أسمع منكم، فبدأ كل واحد يطرح رؤيته حتى جاء دوري في الحديث فقلت: إن التبرعات لا تكفي لتشغيل المكتبة، وسبق لي أن أقنعت وزير التخطيط بإنشاء مكتبة وطنية في الخطة الثالثة ولم تنشأ، ولكن نص عليها فعملت دراسة لإنشاء مكتبة وطنية، لم تنفذ في الخطة الرابعة، ونحن الآن في الخامسة وأفضل شيء أن يقال إن أهالي الرياض يريدون أن يكملوا هديتهم الوطنية للبلد فاشترطوا بأن تكون المكتبة وطنية وباسم الملك فهد، ولم أقل هذه الكلمة حتى انفرجت أسارير الملك سلمان، وقال لي: اقتراحها جيد وهذا الموضوع يحتاج لدراسة فهل تستطيع القيام بها؟ فوافقت وطلب موعدا للانتهاء منها فقلت له: شهر فعملت دراسة تفصيلية، وكان يعقب علي عبدالله البليهد وكيل الإمارة آنذاك، ويحيى بن جنيد فقدمتها في وقتها فرفعها للملك فهد الذي وافق عليها وأصبحت برئاسة ملك البلاد، وأصبح أمير الرياض مشرفا عليها فشكل لها مجلس إدارة برئاسة عبدالله النعيم وأعضاء كنت واحدا منهم حتى شكل مجلس آخر.
معاناة مكتبة جدة
• بالمقابل.. لماذا لم تنجح في إنشاء مكتبة وطنية في جدة؟
•• مبادرة مكتبة الملك فهد العامة بجدة بدأت بفكرة من الشيخ إسماعيل أبو داوود، حيث كانت له أرض غرب السفارة الأمريكية بشارع فلسطين فلم يستطع أن يبنيها لأنها تطل على حرم السفارة، فأقترح عليه إنشاء مكتبة عليها وذهب للأمير ماجد وأخبره برغبته فشكلت لجنة كنت أحد أعضائها وكلفت بإعداد مخطط تأهيلي وبدأنا تطبيقه على مدينة جدة وهي مسجلة في رسالة علمية أشرفت عليها شخصيا، ثم بدأت التبرعات، حيث تبرع الشيخ إسماعيل أبو داوود بالأرض وخمسة ملايين ريال، وتبرع الملك فهد -رحمه الله- بـ15 مليونا، ثم توالت التبرعات حتى بلغت 27 مليونا، وكنت أشارك في هذه العملية لسابق تجربتي في إنشاء مكتبة الملك فهد بالرياض، وكنت أنظر لهذه المكتبة على المدى البعيد لأن تكون فرعا لمكتبة الملك فهد التي يحق لها نظاما أن تفتتح فروعا في جميع المناطق، لكن مع الأسف قصرت جامعة الملك عبدالعزيز تجاه هذا المعلم الحضاري، وكادت أن تنهي قيامها لولا الوخزات التي كنت أرسلها بين فترة وأخرى، رغم أنها لم تضع قرشا واحدا فيها، فالأرض التي أقيمت عليها المكتبة تنازلت عنها الدولة، وكنا ننوي استثمار المبنى. وعندما تركت الجامعة وجاء أسامة طيب قال له بعض من حوله إن هذا المبنى تابع للجامعة وهو ليس كذلك، فقالوا لنا: سنضع فيها مجلس الوقف العلمي، وبعد وفاة الأمير ماجد الذي كان وفيا لها وزارها قبل أسبوعين من وفاته -رحمه الله أهملت، وظللت في حرب معهم أسعى لدى الأمير خالد الفيصل والأمير مشعل بن ماجد ووزارة الإعلام في الموضوع حتى اعترفوا بها كمكتبة عامة ولكنها مازالت تعاني وتئن، ولم يكن العشم أن تأخذ الجامعة هذا الموقف لأنه حق المجتمع على الجامعة ونافذة لها لتضيء ثقافة وعلما.
• ولكنها تعمل الآن؟
•• نعم.. لكنها أصبحت المكان الذي يتخلصون فيها من الكتب الزائدة لديهم عندما تضيق مكتباتهم الجامعية، كما أنهم عينوا عليها أقل عدد ممكن بحجة أن وزارة المالية لا تعطيهم موظفين.
• ما سر علاقتك الوطيدة بالأستاذ عبدالله عبدالجبار -رحمه الله؟
•• كان عبدالله عبدالجبار أستاذا ومديرا في تحضير البعثات أيام الملك سعود، وكان يكتب مقالات أدبية نارية وهي معظم ما صدر في كتابه التيارات الأدبية، فغضب عليه الملك سعود فذهب إلى القاهرة ولم يكن معه شيء، لكن ساعده بعض العاملين في الملحقية السعودية فعمل في جامعة الدول العربية محاضرا بمبلغ متواضع، وهناك خرجت تياراته الأدبية في جزءين طبع الأول منهما والتي اعتمد فيها على دراسة البنية الأساسية للمجتمع (تعليم، صحة، صحافة، مكتبات) ببنية منهجية، ولذلك قال بعض منتقديه إنه أضاع وقته في دراسة هذه الأمور وترك التيارات الأدبية مع أن ما قام به عمل منهجي وأساسي لما كتبه، وحكموا عليه من خلال كتابيه (الشعر والنثر) فالتقطه المثقفون السعوديون خصوصا الطلاب الذين درسوا في القاهرة من طليعة المثقفين مثل غازي القصيبي رحمه الله وغيره، فاتصلت عليه لأزوره وكان يسكن في شقته بمنيل الروضة في القاهرة وتوطدت علاقتنا بتوالي اللقاءات، وعندما أنهيت دراستي وعدت إلى جدة للعمل في الجامعة الأهلية نجحت في إقناعه بأن يهدي مكتبته الخاصة للجامعة الأهلية بجدة فوافق، وكان في تلك الفترة يتعرض لضغوط من قبل الرئيس جمال عبدالناصر الذي قام بسجنه، لكننا أدركنا مكتبته قبل سجنه ونقلناها على دفعتين عبر قناة السويس، وعندما أطلق سراحه صدر قرار بترحيله فاختار الذهاب إلى بريطانيا فاستقبله عبدالمحسن المنقور الملحق الثقافي آنذاك وأسكنه غرفة في سطح الملحقية مكث فيها لفترة وكنت أتردد عليه فيها.
قــصـــــــــة الشـــيـــــــــــك
• هذه العلاقة تستدعيني لأسأل عن حقيقة شيك الملك فهد الذي رفض أن يصرفه في حياته وتركه أمانة عندك؟
•• هذا الشيك تكلم عنه الكثيرون ولكنهم لم يذكروا كل الحقيقة.. وما حدث أنني مرضت وسافرت لإجراء عملية في الظهر في بريطانيا، فطلبني الأستاذ عبدالله عبدالجبار فذهبت إليه وأنا على كرسي متحرك، فقال لي: لقد وصل بي الحال إلى مرحلة صعبة وأريد نقودا لكي أدفع للسائق والطباخ رواتبهم، ولا أملك سوى 100 - 200 سهم في شركة الأسمنت السعودي البحريني كان قد اشتراها لي عبدالعزيز الرفاعي، وأريدك أن تشتريها باسم ابنك (خالد) بتخفيض 25 % على سعر السوق، فعرضت عليه أن أقرضه ما يحتاجه دون بيع الأسهم فرفض، وقال لي: لا تفضحني بين الناس، فعرضت عليه أن يأخذ مني مبلغا من المال قبل سفري على أن أرسل له الباقي بعد عودتي للسعودية، فعندما عدت وجدت أن الشركة أوقف تداول أسهمها، فتحدثت مع محمد سعيد طيب ليبيعها بالنيابة حتى عودتي مرة أخرى للسعودية، ولم أكن أعلم أنني أرتكب خطأ عفويا فقد قام محمد سعيد طيب بشرح حالة الأستاذ عبدالله عبدالجبار وديا لمعالي الشيخ أحمد زكي يماني الذي وافق على شراء الأسهم بمبلغ 100 ألف ريال تقديرا منه لوضع الأستاذ، فيما كانت قيمتها السوقية لا تتجاوز عشرة آلاف ريال آنذاك، وقام محمد سعيد طيب بإرسال المبلغ في ظرف، وقال إن أحمد زكي يماني اشتراها بهذا المبلغ لأن لها مستقبلا كبيرا، فغضب الأستاذ عبدالله عبدالجبار وأعاد المبلغ.
بعد هذا الموقف بفترة اتصل بي الأستاذ محمد الطجل ويعمل مساعدا لرئيس الديوان الملكي آنذاك الشيخ محمد النويصر، وقال لي: أنا مكلف من الملك فهد والنويصر بمقابلة الأستاذ وسأكون في جدة قادما من الرياض بعد ساعتين، فأخبرت الأستاذ ولم يمانع في مقابلته وطلب مني إحضار قهوة وتمر للضيافة، وعندما ذهبنا لمقابلته، قال له الأستاذ الطجل: جئتك مكلفا من الملك فهد بأن أشتري لك بيتا مؤثثا بما تريد وسيارة وأن أوفر لك خادما وسائقا وكل ما تحتاجه، ويقترح الملك أن نشتريه في حي الحمراء بجدة، وأضاف: معي تفويض بلا حدود لمطالبكم، فقال الأستاذ عبدالله: يا محمد.. الملك رجل طيب وأنا لست متزوجا وعندي من الخير إرث أوقاف لكنني غير قادر على التصرف بها، وهذا البيت الذي تزورني فيه ملك لي وأصحابي يسكنون بجواري، وعندي بيت ملك في مكة ولدي مال أريد التخلص منه، وهذه الفلوس تقلقني، فقل للملك: شكرا وجزاك الله خيرا وأبلغه أنني في نعمة وخير، فذهب الأستاذ الطجل وبعد شهرين اتصل بي طالبا مقابلة الأستاذ مرة أخرى، وعندما قابله أخرج من حقيبة يده ظرفا فيه شيك بخمسة ملايين ريال بتوقيع الملك فهد، فأخذه الأستاذ ولم يصرفه، وحاول عدد من أصدقائه مثل الدكتور محمد عبده يماني -رحمه الله- والدكتور أحمد محمد علي وآخرين إقناعه بصرفه ولو أن يشتري به عملا خيريا أو مسجدا لكنه رفض ذلك، وقال لهم: لو أردت أن أتبرع فسأفعل ذلك من مالي وعرق جبيني، وبعد وفاة الملك فهد -رحمه الله- بأيام طلبني وقال لي: كنت أريد إعادة الشيك للملك فهد ولكنكم لم توصلوني به، فالآن تأخذ هذا الشيك عندك وتخفيه ولا يعرف به أحد من أهل بيتك، وإذا توفاني الله تسلمه لورثة الملك فهد، فأخبرته بأن الشيك لم تعد له قيمة حاليا بعد انتهاء مدته، فقال لي: بل قيمته معنوية يا عباس، وبعد وفاته -رحمه الله- اتصل بي الدكتور سهيل قاضي وأخبرني أن مصفي أملاك الملك فهد الدكتور عبدالمحسن الرويشد يريد مقابلتي، فطلبت منه أن يحضر معه ليكون شاهدا فأعددت خطابا بما حدث وسلمته الشيك ووقع لي باستلامه وانتهت قصة الشيك عند هذه النقطة.
أ.د عباس صالح طاشكندي
- مكان الميلاد: مكة المكرمة- المملكة العربية السعودية في 1-7-1361 هجري.
- متزوج وأب لثلاثة أبناء.
الشهادة العلمية:
- بكالوريوس مكتبات ومعلومات 1966م جامعة القاهرة.
- ماجستير علم المكتبات 1969م جامعة بتسبرج (الولايات المتحدة الأمريكية).
- ماجستير علم المكتبات والمعلومات 1971م جامعة بتسبرج (الولايات المتحدة الأمريكية).
- دكتوراة علم المكتبات والمعلومات 1973م جامعة بتسبرج (الولايات المتحدة الأمريكية).
الوظائف :
- أستاذ علم المكتبات والمعلومات، جامعة الملك عبد العزيز – جدة.
- عميد شؤون المكتبات- جامعة الملك عبد العزيز – جدة.
- أمين عام المجلس العلمي- جامعة الملك عبد العزيز جدة.
- أمين عام موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة ، والمحرر الرئيس.
للحديث بقية الأسبوع القادم
• بداية .. ما مدى صحة أنك كنت اختيار القدر لدراسة علم المكتبات، وأنك درسته مغلوبا على أمرك وليس بدافع أو رغبة منك؟
•• كانت أول بعثات السعوديين لأمريكا من طلبة الثانوية العامة فحاول أصدقائي عبدالله البليهد وكيل إمارة الرياض سابقا، ومقبل الخلف إقناعي بالسفر معهم إلى أمريكا، ولكنني تأخرت في تقديم أوراقي لأنني كنت أعمل في تلك الفترة من الصيف في شركة أرامكو وراحت علي البعثة، فتوسط والد عبدالله البليهد وكتب خطابا للشيخ عبدالعزيز آل الشيخ فأحال الخطاب لعبدالوهاب عبدالواسع مدير عام الوزارة آنذاك الذي قال لي: إذا كنت مصرا على السفر فيمكن لنا أن نرسلك للقاهرة لدراسة علوم المكتبات، ولم تكن هذه رغبتي أو توجهي، فقد كان طموحي أن أفكر فقط فاخترت الفلسفة وأول كلمة سمعتها من أستاذي (ليس أروع في الحياة من أن تكون مفكرا)، لكن القدر قادني لعلوم المكتبات رغم عدم قناعتي بها، وكان معي عبدالكريم جمال وإبراهيم سنبل، والحقيقة أنني من اليوم الأول جاءتني (سدة نفس) فذهبت ودفعت نقودا من جيبي للتسجيل في قسم الفلسفة، فوصل هذا الخبر إلى إدارة البعثات في القاهرة، فخيروني بين الانسحاب من تخصص الفلسفة أو فصلي من البعثة فوافقت على طلبهم مكرها أخاك لا بطل، لكنني أكملت السنة الأولى وكنت أدرس التخصصين وقد تعلقت بأستاذي الدكتور زكريا إبراهيم كثيرا، فأخبرته بأنهم هددوني بسحب بعثتي، فقال لي: أدرس التخصصين بحيث تأتيني كل يوم جمعة من بعد المغرب حتى الساعة العاشرة ليلا، وكنت أواظب عنده مع طالب مصري ضرير اسمه سامح، فأخذت عليه دراسات الفلسفة لمدة ثلاث سنوات بالملازمة على الطريقة القديمة لحلقات العلم. والغريب أنني رسبت في السنة الأولى في المكتبات ونجحت في الفلسفة فأعدت السنة ونجحت وعرفت أنها خيرة ولذلك فإنني أقول لكل طالب لا تستاء من التوجه الذي تقاد إليه، فالخيرة فيما يختاره الله لك.
• إلى أي مدى تأثرت بأوج الحياة الثقافية في القاهرة التي كانت قبلة للمثقفين العرب؟
•• القاهرة كانت عاصمة الثقافة في ظل وجود عباقرة كطه حسين وأحمد شوقي والمنفلوطي وعبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهم، وفيها شرفت بلقاء الأساتذة: عبدالله عبد الجبار، وعبيد مدني، وحمزة شحاتة، ومحمد عمر رفيع، ومحمد مرداد، وكان يلتصق بهم جيل آخر منهم الأستاذ أحمد محمد المانع وغيرهم.
• لكنك عدت سريعا بمجرد حصولك على شهادة البكالوريوس؟
•• كان الطلاب الخريجون مرتبطين بوزارة المعارف ولم تكن عندي الرغبة في الانضمام إليها خصوصا أنه كانت لدي عروض من أكثر من جهة، بدءا من الهيئة المركزية للتخطيط التي كان يرأسها رشاد فرعون الذي أرسل لي خطابا إلى القاهرة مع نائبه سعيد آدم، ثم جاءني محمود طيبة وكان لديه مركز أبحاث في وزارة التجارة وحاول إقناعي بالعمل معه، كما حاول طاهر زمخشري أن يقنعني بالعمل في الإذاعة فوافقت، وعندما عدت إلى المملكة ذهب معي للشيخ حسن آل الشيخ وزير المعارف، وأخبره أن وظيفتي جاهزة في الإعلام فأعطاه خطاب تنازل، فعملت بداية في مكتب عباس فائق غزاوي ولم أكن مقتنعا بذلك العمل وقبلها عملت في قسم الاستماع السياسي، وهذا القسم تحديدا كانت تخرج منه نشرات صباحية ومسائية بكل مايذاع ليطلع عليها الملك فيصل -رحمه الله، حيث نكتبها ونفرغها بخط اليد على الإستنسل، ففي أحد الأيام تضورت جوعا فطلبت من أحد زملائي أن يسجل النشرة لرغبتي في شراء سندوتشات ولكنه نسي ولم يفعل، ومن سوء حظي تحدث أناس في مجلس الملك فيصل عن سماعهم عن أعمال شغب قام بها عمال في مدينة بقيق فسأل الملك عن حقيقة الأمر وطالب بمحاسبة المتسبب في عدم كتابة هذا الخبر، فعوقبت بخصم نصف راتبي وكان هذا عقابا مخففا تقبلته بطيبة خاطر، كما كنت مسؤولا عن برنامجين آخرين أكتبهما بخط اليد من إذاعة صوت العرب تحت عنوان «أعداء الله»، و«أولياء الشياطين»، وكان هذان البرنامجان يتناولان عددا من الوزراء السعوديين مثل (عبدالله عريف وحسين عرب وغيرهم) بأشياء بذيئة في عهد الخلاف بين الملك فيصل وجمال عبدالناصر.
أول جامعة أهلية
• ما هو سر التحاقك بأول جامعة أهلية في جدة؟
•• في أحد الأيام جاء محسن باروم إلى الإذاعة، وعرض علي العمل في تأسيس الجامعة الأهلية، وقال لي أنت خريج جامعي كيف ترضى العمل الإداري عند عباس غزاوي فتعال معانا، وكان عائدا لتوه من عمله كملحق ثقافي في جنيف، فطلبت إخلاء طرف من عباس غزاوي فوافق وذهبت معهم إلى شقة في البلد حيث كانت فيها البداية والتربية الحقيقية.
• إلى أي مدى كان السفر إلى أمريكا حلما لكل طالب ولك شخصيا؟
•• لدرجة كبيرة.. فهناك ترى الطريق وتتعلم كيفية السير فيه، ولذلك تغيرت اهتماماتي عندما عدت إلى المملكة، فوجدت أن لي دورا في أمرين مهمين: تطوير المكتبات التي تعتبر رمزا لحركة الكتاب، وتدريس الناحية النظرية لهذا العلم.
• هل كان الواقع محبطا لهذه الدرجة؟
•• جدا.. فقد وجدت المكتبات في صورة غير لائقة بل سيئة فبذلت جهدي في الجهة التي عملت بها والجهات الأخرى، حيث كنت عضوا في مجلس جامعة الملك سعود للمكتبات، ثم تم تعيين الدكتور أحمد الضبيب عميدا لشؤون المكتبات في الرياض وأنا عينت في جدة واستمريت عضوا معهم لعشر سنوات، حيث كنت متخصصا في هذا العلم فيما كان الضبيب أديبا، وكانت تربطني علاقة صداقة مع عبدالعزيز الفدا مدير جامعة الرياض آنذاك حتى عندما كنت طالبا في أمريكا كان يزورني فأقنعته في إحدى المرات أن يرسل مجموعة للدراسة، ووعدني فكانت أول مجموعة تضم يحيى بن جنيد وعبدالرحمن عكرش، وعندما عدت وجدت أن بلادي ليس فيها مكتبة وطنية فحاولت أن يكون لي دور في جميع المراحل، ثم وجدت أنه ينقص اكتمال هذه الأدوار الناحية النظرية فساهمت في إنشاء قسم المكتبات لكي نعلم الناس هذا العلم.
واقع مؤلم
• لكنك لم تكن راضيا عن الوضع على مدى 4 عقود قضيتها في الجامعة؟
•• هذا صحيح، فقد أمضيت أربعة عقود من عمري لم أشعر فيها بقيمة العمل العلمي في حياتي إلا بعد تقاعدي وتفرغي لعمل موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، والسبب أن النتاج العلمي في الجامعات موغل في الأكاديمية، وعضو هيئة التدريس في الدرجة الأولى باحث وعليه دائما أن يفكر في الموضوعات والقضايا ولا يهبط بمستوى المجتمع، وإنما يرتفع به إلى الأعلى، هذه الصورة النمطية الموجودة في الجامعات ومعاهد الأبحاث في الخارج غير موجودة في جامعاتنا التي لم تستطع أن تصل لمرحلة تنمية المجتمع، وإنما تريد من يقودها بينما الجامعات في العالم هي التي تقود، وترتفع بدراساتها التطبيقية لتنمية المجتمع.
• هل تقصد أن التدريس في الجامعات أصبح مجرد وظيفة؟
•• للأسف هو كذلك، وعندما يصل الحال بأن تخرج لنا الجامعات كوادر بهذا المستوى فإنه يحق للدولة والمؤسسات التي تصرف عليها أن تفرض شروطها لتقوم الجامعات بدورها تجاه المعرفة وقضايا المجتمع. وكمثال كان الياباني هاياكاوا رئيسا لجامعة بيركلي وكانت حرب فيتنام في ذروتها بالنسبة للرئيس جونسون فخرجت من هذه الجامعة الاحتجاجات الطلابية التي فرضت على أمريكا أن تسحب قواتها من فيتنام وتغير سياستها.
• وأين دور الجامعات في رفد سوق العمل بالكفاءات المؤهلة؟
•• يفترض أن الجامعات تسند الدولة في شيئين: تخريج كوادر يحتاجها المجتمع (قطاع الأعمال) ويمكن أن يعمل هذا لذاته وليس للحكومة فقط، ومن هنا انسحب الدور التعليمي على تعليم الذهنية وليس الموظف وانقلب الآن دور الجامعات فأصبحت تخرج لنا موظفين في الدولة، وبالتالي صارت الدولة هي التي توظف الخريج وأحدثت أزمة بطالة لأنها جعلت من نفسها الجهة الوحيدة التي تعين الخريج وتعوله، والمفروض أن الدولة في خططها لا تكون هي العائل الوحيد، وأعتقد أن الحد من العمالة الأجنبية له دور كما أن القطاع الخاص عليه أن يستوعب ضعف ما تستوعبه الدولة، والمعروف أن الدول تحمي نفسها بفرض المواطن على المؤسسات التي تستضيفها على أراضيها، فلو ذهبت إلى القاهرة مثلا ورأيت المؤسسات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية والمؤسسات الثقافية، فستجد أنها تستوعب ما بين 90 إلى 95 % من أبناء مصر، وقس على ذلك في الكثير من الدول، أما في المملكة فخذ مثلا: الهيئات الدولية التي تكون في أراضيها، فستجد أن السعوديين ندرة بين موظفيها.
رفضت المناصب
• بصراحة شديدة .. لماذا لم يتم تكليفك في مناصب قيادية بجامعة الملك عبدالعزيز على مدى 40 عاما، مع أن البعض يرى فيك الجدارة بصفتك من المؤسسين لها؟
•• أولا: كلفت في الجامعة بمناصب إدارية ذات طبيعة علمية كالعمادة والمجلس العلمي للجامعة ورئاسة لجنة الترقيات، أما ما عدا ذلك فهي أمور لا تهمني كثيرا، فالمناصب تعجب عشاقها. ثانيا: أن اللقب العلمي هو أبرز ما يحققه أستاذ الجامعة، وقد حققته.
• لكنك رفضت حتى التكريم من الجامعة؟
•• هذه مفاهيمي الخاصة وهي أن الشخص لا يكرم إلا إذا أدى عملا خارقا، أما أداؤه لعمله بأمانة، فهذا واجب لا يكرم عليه. وأخبرتهم أنني على مدى 40 عاما أديت واجبي بأمانة فقط، ولم أقدم أعمالا خارقة تستحق التكريم.
ترسيخ الهوية
• دعني أعود لدائرة علم المكتبات وأتساءل عن السبب في عدم المحافظة على هوية بعض المكتبات الوقفية كمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة التي أعددت فيها رسالتك للدكتوراة؟ وهل ينسحب هذا التوجه كنتاج طبيعي لإهمال المجتمع القراءة والاهتمام بالكتب؟
•• مكثت بهذه المكتبة التاريخية أكثر من أربعة أشهر تقريبا في الفترة التي كان فيها العم محمود أكينلي مديرا وكان رجلا صالحا تقيا، وأحب أن أوضح أنه منذ العهد الإسلامي الأول وجدت المكتبة الوقفية في المدينة المنورة، فأبي هريرة كانت له مكتبة، وعبدالله بن عباس كذلك، وكان لمحمد ابن جبير ابن مطعم مكتبة يسمح بدخول النساء إليها في المساء. وأعتقد أن التلاقح هو الأساس، والحرمان الشريفان كانا مشاعل ترسخ الهوية ويجب أن ننميها ونرسخها، لا أن نهدم مكتبات الوقف التي أنارت تاريخ الأمة على مدى 11 قرنا وكذلك مكتبتي مظهر والمحمودية وغيرها فنذيبها تحت إطار مكتبة المدينة العامة، ومن المؤسف أن نفكر في بناء فندق في مكان المكتبة، وفوق المطبخ يضعون نصف دور للمكتبة.
• هل تعتقد أن تغييب دور هذه المكتبات يؤثر على الدور الذي يتطلع إليه المسلمون من الحرمين الشريفين؟
•• هنا كلمة جميلة للشامخ «أن القرون الثلاثة الأول وصولا إلى القرن الخامس الهجري كانت فترة ازدهار للحضارة الإسلامية ثم تدهور الحال من الخامس على الثامن، حيث غاب فيها عقل العالم الإسلامي فانتشرت الخرافات والصوفية والكتب الصفراء فكانت أسوأ مرحلة».. وفي هذا الشأن كتب يحيى بن جنيد كتابا صغيرا في حجمه كبيرا في مضمونه بعنوان «كيف ورثنا الأمية؟» ولكن الشعلة حملتها من جديد أرض الحرمين الشريفين مع الحج بقدوم العلماء، وأنا أضيف أيضا بما أحاط بالحرمين الشريفين، فلما دخلنا عصر الأمية كانت حلقات العلم تحمل الرسالة ومعها المكتبات الوقفية والأربطة والمدارس الإسلامية التي يتبرع بها خلفاء المسلمين ويبنونها حول الحرم، وكذلك حلقات التدريس في الحرمين والأوقاف والمساجد الوقفية، وللأسف أننا في العصر الحديث فرغنا هذا الدور من الحرمين الشريفين وهذا أضعف الرسالة المناطة بهما.
دكتوراة السريحي
• مارست دورك كوسيط في قضية حجب درجة دكتوراة سعيد السريحي، فما هو موقفك منها؟ ورأيك فيما حدث؟
•• لم يكن لي دور لكنني كنت على صلة ببعض أطراف القضية مثل د. حسن باجودة ومحمود زيني وعبدالوهاب أبو سليمان، وكان لي موقف واضح جدا وهو أنه ما كان يجب أن تحجب درجة الدكتوراة عن الرجل لأن رسالته لا علاقة لها بما كان يدور في الساحة الثقافية، وإنما حجبت لنفوذ بعض الأشخاص والظرف التاريخي الذي كان عليه مجلس الجامعة في تلك الفترة فأشغلوا أضعفهم نفسا بعمل تقرير ربط فيه ما بين الحداثة والتعاطف الكتابي بشأن الحداثة عند السريحي وبين رسالته التي لم يكن لها علاقة بالأمر وطعن في زملاء له، فأسقط في يد مجلس الجامعة ومديرها الذي كان يخشى هؤلاء الأشخاص فمرر التقرير ثم سحب الدرجة. وهنا حقيقة لا بد من ذكرها فمجلس القسم لا يمنح الدرجة ولكن يوصي بذلك، والحال كذلك فمجلس الكلية لا يمنح الدرجة أيضا ولكن يوصي بها، أما من يمنح الدرجة فهو مجلس الجامعة الذي وجدها فرصة فلم يوافق على التوصيات، فالدرجة في الحقيقة لم تعط لكي تسحب، ولا يصبح المنح ساريا إلا بعد اعتماد رئيس المجلس للمحضر وهو وزير التعليم العالي آنذاك وكان وقتها الدكتور عبدالعزيز الخويطر وزير التعليم العالي بالنيابة وهم بذلك ظلموه رحمه الله لأن القرار لم يصله أصلا.
اللجنة العجيبة
• ما هي دوافع تشكيل أول لجنة لمراقبة وتقصي الجامعات والشهادات الوهمية والتي كنت عضوا بها؟
•• لم تكن لجنة لتقصي الشهادات الوهمية، وإنما كانت لجنة لمعادلة الشهادات وقد شكلت بأمر ملكي وكنت عضوا فيها منذ تأسيسها لمدة 12 سنة تقريبا وكانت لجنة عجيبة تركت أثرا في نفسي فقد كان رئيسها الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وتولى نائبه وكيل الوزارة الدكتور محمود سفر رئاستها، وكان من أعضائها د. عبدالوهاب أبو سليمان وعلي الدفاع وراشد المبارك وسراج ملائكة ومحمد الرشيد، ومحمد التركي، وفهد الدخيل.. لقد كنا مجموعة جميلة ومتناسقة وبيننا ألفة رائعة وامتدت صداقتنا منذ التقائنا عبر سنوات العمر.
• وما هو الهدف الحقيقي لهذه اللجنة؟
•• هدفها الأساسي معادلة الشهادات التي تمنح من الجامعات الأجنبية، وواجهت اللجنة مشاكل منها: أن بعض من سافروا ودرسوا في روسيا في عهد الملك فيصل ورغبتهم في الاشتغال بهذه الشهادات وتزامن إنشاؤها أيضا مع وجود عدد من الطلاب الذين سافروا إلى ألمانيا لدراسة الطب ومنهم مجموعة الدكتور أسامة شبكشي فهؤلاء لم يوافق مجلس الوزراء على الاعتراف بشهاداتهم، وكان لوزير الصحة آنذاك د. حسين الجزائري موقف من شهاداتهم، فرفعوا برقية للملك وكان عددهم 70 طبيبا طالبوا فيها بمعادلة شهاداتهم أو ببقائهم للعمل في ألمانيا، فتبنت اللجنة قضيتهم في تلك الفترة وكان أعضاء اللجنة كلهم من خريجي بريطانيا، وسافرت شرقا وغربا حتى أثبت أن (شهادة التخصص) الألمانية لا تقل عن الزمالة البريطانية التي تعادل بشهادة الدكتوراة، وكانت السوق الأوروبية المشتركة كانت ناشئة قد أقرت معادلة للشهادات فجمعوا الشهادات المهنية في بوتقة واحدة، وتمت معادلة الشهادة الألمانية في التخصص الطبي. وقد تطور عمل اللجنة بعد ذلك لمحاربة الشهادات المزورة فذهبنا إلى الهند ووجدنا بها أكثر من 50 برنامجا للتزوير، فعرفنا أن هذا الموضوع يشكل قضية كبرى وبعدها بدأنا ندقق في كل الشهادات.
الملك يتذكرني
• ما هي حقيقة موقفك مع الملك سلمان الذي ساهم في إنشاء ونجاح مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض كأول مكتبة وطنية؟
•• مازال الملك سلمان يذكرني عندما قال لي: أنت أنقذتنا باقتراحك.. فقد كان الدكتور يحيى بن جنيد المسؤول الأول عن المكتبة والمهندس المشرف على المشروع هو الأمير أحمد بن عبدالله بن عبدالرحمن، حيث بنيت المكتبة بتبرع من الأهالي، ولكن أمانة الرياض قالت إنها لا تستطيع بإمكاناتها أن تشرف عليها، وأن الموضوع يحتاج إلى إمكانيات تشغيلية كبيرة، فرفعوا الأمر للملك سلمان، عندما كان أميرا على الرياض آنذاك، فتم تشكيل لجنة من ستة أشخاص منهم عبدالله الوهيبي، ومحمد آل زلفة، وعلي النملة، ومصطفى السدحان، ويحيى بن جنيد، وشخصي الضعيف وطرح علينا سموه المشكلة، وقال أحب أن أسمع منكم، فبدأ كل واحد يطرح رؤيته حتى جاء دوري في الحديث فقلت: إن التبرعات لا تكفي لتشغيل المكتبة، وسبق لي أن أقنعت وزير التخطيط بإنشاء مكتبة وطنية في الخطة الثالثة ولم تنشأ، ولكن نص عليها فعملت دراسة لإنشاء مكتبة وطنية، لم تنفذ في الخطة الرابعة، ونحن الآن في الخامسة وأفضل شيء أن يقال إن أهالي الرياض يريدون أن يكملوا هديتهم الوطنية للبلد فاشترطوا بأن تكون المكتبة وطنية وباسم الملك فهد، ولم أقل هذه الكلمة حتى انفرجت أسارير الملك سلمان، وقال لي: اقتراحها جيد وهذا الموضوع يحتاج لدراسة فهل تستطيع القيام بها؟ فوافقت وطلب موعدا للانتهاء منها فقلت له: شهر فعملت دراسة تفصيلية، وكان يعقب علي عبدالله البليهد وكيل الإمارة آنذاك، ويحيى بن جنيد فقدمتها في وقتها فرفعها للملك فهد الذي وافق عليها وأصبحت برئاسة ملك البلاد، وأصبح أمير الرياض مشرفا عليها فشكل لها مجلس إدارة برئاسة عبدالله النعيم وأعضاء كنت واحدا منهم حتى شكل مجلس آخر.
معاناة مكتبة جدة
• بالمقابل.. لماذا لم تنجح في إنشاء مكتبة وطنية في جدة؟
•• مبادرة مكتبة الملك فهد العامة بجدة بدأت بفكرة من الشيخ إسماعيل أبو داوود، حيث كانت له أرض غرب السفارة الأمريكية بشارع فلسطين فلم يستطع أن يبنيها لأنها تطل على حرم السفارة، فأقترح عليه إنشاء مكتبة عليها وذهب للأمير ماجد وأخبره برغبته فشكلت لجنة كنت أحد أعضائها وكلفت بإعداد مخطط تأهيلي وبدأنا تطبيقه على مدينة جدة وهي مسجلة في رسالة علمية أشرفت عليها شخصيا، ثم بدأت التبرعات، حيث تبرع الشيخ إسماعيل أبو داوود بالأرض وخمسة ملايين ريال، وتبرع الملك فهد -رحمه الله- بـ15 مليونا، ثم توالت التبرعات حتى بلغت 27 مليونا، وكنت أشارك في هذه العملية لسابق تجربتي في إنشاء مكتبة الملك فهد بالرياض، وكنت أنظر لهذه المكتبة على المدى البعيد لأن تكون فرعا لمكتبة الملك فهد التي يحق لها نظاما أن تفتتح فروعا في جميع المناطق، لكن مع الأسف قصرت جامعة الملك عبدالعزيز تجاه هذا المعلم الحضاري، وكادت أن تنهي قيامها لولا الوخزات التي كنت أرسلها بين فترة وأخرى، رغم أنها لم تضع قرشا واحدا فيها، فالأرض التي أقيمت عليها المكتبة تنازلت عنها الدولة، وكنا ننوي استثمار المبنى. وعندما تركت الجامعة وجاء أسامة طيب قال له بعض من حوله إن هذا المبنى تابع للجامعة وهو ليس كذلك، فقالوا لنا: سنضع فيها مجلس الوقف العلمي، وبعد وفاة الأمير ماجد الذي كان وفيا لها وزارها قبل أسبوعين من وفاته -رحمه الله أهملت، وظللت في حرب معهم أسعى لدى الأمير خالد الفيصل والأمير مشعل بن ماجد ووزارة الإعلام في الموضوع حتى اعترفوا بها كمكتبة عامة ولكنها مازالت تعاني وتئن، ولم يكن العشم أن تأخذ الجامعة هذا الموقف لأنه حق المجتمع على الجامعة ونافذة لها لتضيء ثقافة وعلما.
• ولكنها تعمل الآن؟
•• نعم.. لكنها أصبحت المكان الذي يتخلصون فيها من الكتب الزائدة لديهم عندما تضيق مكتباتهم الجامعية، كما أنهم عينوا عليها أقل عدد ممكن بحجة أن وزارة المالية لا تعطيهم موظفين.
• ما سر علاقتك الوطيدة بالأستاذ عبدالله عبدالجبار -رحمه الله؟
•• كان عبدالله عبدالجبار أستاذا ومديرا في تحضير البعثات أيام الملك سعود، وكان يكتب مقالات أدبية نارية وهي معظم ما صدر في كتابه التيارات الأدبية، فغضب عليه الملك سعود فذهب إلى القاهرة ولم يكن معه شيء، لكن ساعده بعض العاملين في الملحقية السعودية فعمل في جامعة الدول العربية محاضرا بمبلغ متواضع، وهناك خرجت تياراته الأدبية في جزءين طبع الأول منهما والتي اعتمد فيها على دراسة البنية الأساسية للمجتمع (تعليم، صحة، صحافة، مكتبات) ببنية منهجية، ولذلك قال بعض منتقديه إنه أضاع وقته في دراسة هذه الأمور وترك التيارات الأدبية مع أن ما قام به عمل منهجي وأساسي لما كتبه، وحكموا عليه من خلال كتابيه (الشعر والنثر) فالتقطه المثقفون السعوديون خصوصا الطلاب الذين درسوا في القاهرة من طليعة المثقفين مثل غازي القصيبي رحمه الله وغيره، فاتصلت عليه لأزوره وكان يسكن في شقته بمنيل الروضة في القاهرة وتوطدت علاقتنا بتوالي اللقاءات، وعندما أنهيت دراستي وعدت إلى جدة للعمل في الجامعة الأهلية نجحت في إقناعه بأن يهدي مكتبته الخاصة للجامعة الأهلية بجدة فوافق، وكان في تلك الفترة يتعرض لضغوط من قبل الرئيس جمال عبدالناصر الذي قام بسجنه، لكننا أدركنا مكتبته قبل سجنه ونقلناها على دفعتين عبر قناة السويس، وعندما أطلق سراحه صدر قرار بترحيله فاختار الذهاب إلى بريطانيا فاستقبله عبدالمحسن المنقور الملحق الثقافي آنذاك وأسكنه غرفة في سطح الملحقية مكث فيها لفترة وكنت أتردد عليه فيها.
قــصـــــــــة الشـــيـــــــــــك
• هذه العلاقة تستدعيني لأسأل عن حقيقة شيك الملك فهد الذي رفض أن يصرفه في حياته وتركه أمانة عندك؟
•• هذا الشيك تكلم عنه الكثيرون ولكنهم لم يذكروا كل الحقيقة.. وما حدث أنني مرضت وسافرت لإجراء عملية في الظهر في بريطانيا، فطلبني الأستاذ عبدالله عبدالجبار فذهبت إليه وأنا على كرسي متحرك، فقال لي: لقد وصل بي الحال إلى مرحلة صعبة وأريد نقودا لكي أدفع للسائق والطباخ رواتبهم، ولا أملك سوى 100 - 200 سهم في شركة الأسمنت السعودي البحريني كان قد اشتراها لي عبدالعزيز الرفاعي، وأريدك أن تشتريها باسم ابنك (خالد) بتخفيض 25 % على سعر السوق، فعرضت عليه أن أقرضه ما يحتاجه دون بيع الأسهم فرفض، وقال لي: لا تفضحني بين الناس، فعرضت عليه أن يأخذ مني مبلغا من المال قبل سفري على أن أرسل له الباقي بعد عودتي للسعودية، فعندما عدت وجدت أن الشركة أوقف تداول أسهمها، فتحدثت مع محمد سعيد طيب ليبيعها بالنيابة حتى عودتي مرة أخرى للسعودية، ولم أكن أعلم أنني أرتكب خطأ عفويا فقد قام محمد سعيد طيب بشرح حالة الأستاذ عبدالله عبدالجبار وديا لمعالي الشيخ أحمد زكي يماني الذي وافق على شراء الأسهم بمبلغ 100 ألف ريال تقديرا منه لوضع الأستاذ، فيما كانت قيمتها السوقية لا تتجاوز عشرة آلاف ريال آنذاك، وقام محمد سعيد طيب بإرسال المبلغ في ظرف، وقال إن أحمد زكي يماني اشتراها بهذا المبلغ لأن لها مستقبلا كبيرا، فغضب الأستاذ عبدالله عبدالجبار وأعاد المبلغ.
بعد هذا الموقف بفترة اتصل بي الأستاذ محمد الطجل ويعمل مساعدا لرئيس الديوان الملكي آنذاك الشيخ محمد النويصر، وقال لي: أنا مكلف من الملك فهد والنويصر بمقابلة الأستاذ وسأكون في جدة قادما من الرياض بعد ساعتين، فأخبرت الأستاذ ولم يمانع في مقابلته وطلب مني إحضار قهوة وتمر للضيافة، وعندما ذهبنا لمقابلته، قال له الأستاذ الطجل: جئتك مكلفا من الملك فهد بأن أشتري لك بيتا مؤثثا بما تريد وسيارة وأن أوفر لك خادما وسائقا وكل ما تحتاجه، ويقترح الملك أن نشتريه في حي الحمراء بجدة، وأضاف: معي تفويض بلا حدود لمطالبكم، فقال الأستاذ عبدالله: يا محمد.. الملك رجل طيب وأنا لست متزوجا وعندي من الخير إرث أوقاف لكنني غير قادر على التصرف بها، وهذا البيت الذي تزورني فيه ملك لي وأصحابي يسكنون بجواري، وعندي بيت ملك في مكة ولدي مال أريد التخلص منه، وهذه الفلوس تقلقني، فقل للملك: شكرا وجزاك الله خيرا وأبلغه أنني في نعمة وخير، فذهب الأستاذ الطجل وبعد شهرين اتصل بي طالبا مقابلة الأستاذ مرة أخرى، وعندما قابله أخرج من حقيبة يده ظرفا فيه شيك بخمسة ملايين ريال بتوقيع الملك فهد، فأخذه الأستاذ ولم يصرفه، وحاول عدد من أصدقائه مثل الدكتور محمد عبده يماني -رحمه الله- والدكتور أحمد محمد علي وآخرين إقناعه بصرفه ولو أن يشتري به عملا خيريا أو مسجدا لكنه رفض ذلك، وقال لهم: لو أردت أن أتبرع فسأفعل ذلك من مالي وعرق جبيني، وبعد وفاة الملك فهد -رحمه الله- بأيام طلبني وقال لي: كنت أريد إعادة الشيك للملك فهد ولكنكم لم توصلوني به، فالآن تأخذ هذا الشيك عندك وتخفيه ولا يعرف به أحد من أهل بيتك، وإذا توفاني الله تسلمه لورثة الملك فهد، فأخبرته بأن الشيك لم تعد له قيمة حاليا بعد انتهاء مدته، فقال لي: بل قيمته معنوية يا عباس، وبعد وفاته -رحمه الله- اتصل بي الدكتور سهيل قاضي وأخبرني أن مصفي أملاك الملك فهد الدكتور عبدالمحسن الرويشد يريد مقابلتي، فطلبت منه أن يحضر معه ليكون شاهدا فأعددت خطابا بما حدث وسلمته الشيك ووقع لي باستلامه وانتهت قصة الشيك عند هذه النقطة.
أ.د عباس صالح طاشكندي
- مكان الميلاد: مكة المكرمة- المملكة العربية السعودية في 1-7-1361 هجري.
- متزوج وأب لثلاثة أبناء.
الشهادة العلمية:
- بكالوريوس مكتبات ومعلومات 1966م جامعة القاهرة.
- ماجستير علم المكتبات 1969م جامعة بتسبرج (الولايات المتحدة الأمريكية).
- ماجستير علم المكتبات والمعلومات 1971م جامعة بتسبرج (الولايات المتحدة الأمريكية).
- دكتوراة علم المكتبات والمعلومات 1973م جامعة بتسبرج (الولايات المتحدة الأمريكية).
الوظائف :
- أستاذ علم المكتبات والمعلومات، جامعة الملك عبد العزيز – جدة.
- عميد شؤون المكتبات- جامعة الملك عبد العزيز – جدة.
- أمين عام المجلس العلمي- جامعة الملك عبد العزيز جدة.
- أمين عام موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة ، والمحرر الرئيس.
للحديث بقية الأسبوع القادم