-A +A
نجيب عصام يماني

لم أستطع أن أغالب شعور الحزن العميق الذي خالط الفرح بنجاح أجهزتنا الأمنية في إلقاء القبض على الخلية الإرهابية المنتمية للتنظيم الفاشي «داعش». وحزني مرده هذا العدد الكبير الذي ألقي القبض عليه والذي بلغ 431 شخصا معظمهم سعوديون، دون تحديد دقيق لأعمار المقبوض عليهم، كون ذلك سيكون سبيلنا للوقوف على حجم الكارثة التي باتت تحيط بمجتمعنا.

وعلى أي حال، فإن في هذا العدد المعلن مزيدا من قرع الأجراس عالية التصدية، والأبواق المنذرة بمكاء قوي أن الوضع بات أخطر من أن نواجهه بالتفسيرات المعلبة الجاهزة، مما بات يشكل نوعا من «الهروب إلى الامام» من المعضلة، بدل المضي عميقا والبحث في كل جوانب الأزمة، واستكناه أسبابها، ومعرفة دوافعها، وسبر أغوار مساقيها.
ومع تسليمي المطلق بوجود نوايا ومهددات إقليمية تستهدف أمن وسلامة هذا الوطن العزيز؛ إلا أن ذلك لا يمثل العنصر الأكثر أهمية، والأكبر تأثيرا في ما نمر به من أزمة، فمعالجة مثل هذا التهديد والاستهداف الإقليمي أو العالمي مهمة تضطلع بها القيادة الرشيدة بكل اقتدار وحزم وعزم، ونكاد نلمس أثر ذلك واضحا في تحجيم دور هذه الجهات وضرب مخططاتها الآثمة متى ما أطلت برأسها. غير أن الأمر المثير للقلق أن نضخم من أمر هذا الاستهداف الخارجي، ونجعل منه الذريعة الأساسية، والمبرر الأكثر قبولا للقول بأن ما يحدث من انحراف فكري وتشدد وغلو مصدره طائف خارجي، وفكر وافد... كيف استطاع هذا الوافد العابر أن يغير من سلوك أبنائنا، ويقلب منظومتهم الفكرية رأسا على عقب، ويتحكم فيهم، ويبرمج أدمغتهم إلى غاية أن يزين لهم الانتحار.. هل تم هذا الأمر بكل اليسر والسلاسة وفي غضون ساعات أو أيام معدودة، أم إن الأمر له سنوات، والمياه تمضي تحت الجسور ونحن لا ندري.. كل هذه الأسئلة الحارقة والموجعة تجعلنا نقف أمام سؤال جوهري: هل كنا بهذه الغفلة والاستغفال حتى يعبر إلينا «الآخرون» ويضربوننا في العمق، ويسلبون منا أعز ما نملك؟!.
لا.. ليس جوهر الأمر مرتبطا بالاستهداف الخارجي، ولا بالأجندة الإقليمية، هي عنصر من أوهى العناصر في هذه الحلقة المقيتة. إن جوهر الأمر يكمن في داخلنا.. في أسرنا ومناهجنا ومساجدنا وفي خطابنا الديني عامة، فليفتش كل منا داخل بيته جيدا، وليطالع سلوك أبنائه بروية ومكث واستبصار، لينظر إلى ابنه من يخالط، وماذا يقرأ، وفي ماذا يصرف وقته.. إن الانحراف الفكري والغلو والتشدد ليس بالأمر الذي يخفى على الأب أو الأم أن تلاحظه متى ما تجلت مظاهره على الأبناء، فإن لذلك سمات وتجليات بائنة وظاهرة للعيان، ليذهب كل واحد منا باستقصاء ومعرفة أسباب أي مظهـر جديد يطرأ على ابنه، ولا حرج حتى في التقصي من جهات تكتسب قدسية في داخلنا مثل المخيمات الدعوية وجمعيات تحفيظ القرآن والمساجد، لافتا الانتباه إلى ما تفضل به المهندس عبدالعزيز حنفي، رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن (خيركم) الذي أشار إلى أن هناك العديد من الجمعيات غير المرخص لها بالعمل، وأن كثيرا من التجاوزات التي اتهمت بها جمعيات التحفيظ كان مردها إلى هذه الجمعيات غير المرخص لها.. كما أكد التقرير الصادر عن معهد الديمقراطية والتوسط في تيرانا أن الجوامع غير المرخص لها تعتبر منبعا للفكر المتطرف وأن رجال الدين لم يعدوا الإعداد اللازم لمواجهة مثل هذا الفكر الديني المتطرف (الحياة 19100).
إن مرحلة المعالجة برأيي تبدأ من داخل الأسرة، وإليها تنتهي، واقترح على الأجهزة الأمنية التي تتولى ملف المقبوض عليهم أن تذهب بهذا الاتجاه وتستقصي من الجذور الأسرية لهذه الفئة، ومعرفة الدوافع الأساسية والفكر الذي يقف وراء إعلاء ثقافة الموت في داخلهم على ثقافة الحياة والأمن والسلام، واستقصاء العلل النفسية التي تتوطن مثل هذه النفوس، فالراجح أن إقدام أي شخص على مثل هذا الصنيع لا يمكن أن يكون بلا علة نفسية، وسقم في دخيلته يورده موارد الهلاك وإزهاق الأرواح بدم بارد؛ بل وبقناعة من يؤدي عمله زلفى وقربى إلى الله.
إننا الآن أمام قمة جبل الجليد فقط، فليس العدد المحصور بالقبض، والموضوع رهن التحقيق هو المعضلة الآن، بل المعضلة تكمن في البذور التي يخلفها، والغفلة التي تحوطنا، والكسل الذهني الذي يطوقنا دون المضي بكل شفافية وصدق مع النفس لمساءلتها بجرأة ودون تهيب عن الأسباب الحقيقية والدوافع المنطقية التي أفضت بنا إلى ما جرى.. علينا أن لا نتحرج في توجيه أصابع الاتهام إلى أي جهة مهما كانت، علينا أن نعين بالاسم أي شخص أسهم صراحة أو ضمنا وإيحاء في بلوغ أبنائنا هذه المرحلة الخطيرة.. علينا أن نقرأ المتغيرات الكبيرة التي طرأت في مجتمعنا، واستبصار العلل الواضحة التي تطاله، وتحليل ما يدور فيه من مشكلات أسرية بالغة التعقيد والخطورة، والمناهج التعليمية وما فيها والفكر الذي يتسيد خطابنا فهي فيما أرى جوهر الخلل، وبؤرة المشكلة، ومنطلق التراكمات النفسية التي انتهت بأبنائنا إلى كراهة الحياة والبحث عن الموت ولو انتحارا.. اتركوا قمة جبل الجليد.. وابحثوا عميقا وبروية عن قاعدة هذا الجبل بتجرد ونزاهة وصدق وشفافية..